في ظهيرة عادية من أحد أيام السبت وسط لندن، كنت وصديقتي نحاول أن نقرر أين نتناول طعام الغداء. كنت أُمعن النظر في المقاهي القريبة، مستدعية من ذاكرتي سلسلة أماكن زرتها سابقاً. أما صديقتي، فمنشغلة بالطباعة على هاتفها المحمول. "سألت ’تشات جي بي تي‘ تواً"، تخبرني، قبل أن تبدأ في سرد قائمة سريعة ومنظمة تستعرض مزايا وعيوب كل مطعم يقدم "سندويشات على الطريقة الإيطالية" ضمن نطاق لا يتعدى الـ100 متر فحسب. تبدو راضية تماماً عن النتائج التي بين يديها.
أما أنا فشعرت بخيبة أمل، بل ربما بقليل من الخزي، ذلك أن رد فعلها التلقائي في موقف بسيط لا يتطلب كثيراً من التفكير كان سؤال روبوت دردشة مدعوم بالذكاء الاصطناعي. وكان في مقدورها ببساطة البحث عبر "غوغل"، أو إلقاء نظرة على الدليل الشامل "تايم أوت" Time Out، أو أن تعتمد مثلاً على معرفتها بهذه المدينة (علماً أنها عاشت فيها طوال الأعوام السبعة الماضية).
لا يروق لي هذا السلوك. لكم أن تنعتوني بالمتخلفة تكنولوجياً، ولكني لا أنفك أزداد قلقاً في شأن الاعتماد الكبير من المحيطين بي على الذكاء الاصطناعي، خصوصاً نموذج اللغة التوليدية الشهير "تشات جي بي تي" من تطوير "أوبن أي آي"., يتكل أصدقائي المقربون وشريكي على روبوت الدردشة يومياً كمصدر معلومات سريع، متخلين عن البحث التقليدي البسيط عبر "غوغل" ومستسلمين لإغراء الردود الفورية المخصصة التي يقدمها "تشات جي بي تي".
ويلجأ إليه بعض الأصدقاء للاستفسارات العادية، أما شريكي فيعامله كما لو أنه مساعده الرقمي الخاص الذي لا يستغني عنه أبداً (حتى إنه يناديه بالاسم "تشات" بكل مودة وحنان). ويذهب آخرون أبعد من ذلك، قرأت قصصاً مقلقة عن أشخاص يستخدمون "تشات جي بي تي" كبديل للمعالج النفسي، أو كأداة لصياغة الردود في خضم الخلافات الزوجية، فضلاً عن اعتماد التلاميذ والطلاب عليه في إنجاز واجباتهم المدرسية أو الجامعية، في حين تسعى المؤسسات التعليمية جاهدة للتكيف مع هذه التكنولوجيا المتطورة والتحديات التي تفرضها.
لا تسيئوا فهمي، أدرك تماماً الفوائد التي ينطوي عليها استخدام الذكاء الاصطناعي. سمعت قصص نجاح لمستخدمين استعانوا به في إعداد برامج تمارين رياضية، أو إنشاء صور توضيحية لمنتجات يعملون على تطويرها، أو كمساعد شخصي يسهل انطلاقتهم في مشاريع تجارية. الإجابات كافة التي يحتاج إليها المرء في متناول يديه الآن (مع أن الدقة غير مضمونة، وتكون النتائج غالباً خاطئة بصورة فادحة).
ولكن إزاء تنامي المخاوف في شأن الأضرار التي يحملها تطور الذكاء الاصطناعي على مستقبل الوظائف والعمل عموماً، والمناخ، ومهاراتنا المعرفية، أشعر بالخزي من البلادة الفكرية المحبطة التي دفعتنا إليها روبوتات الدردشة. وكأن أحداً لم يعد مستعداً لبذل أدنى جهد ذهني في حل مشكلة ما.
"تشات جي بي تي"، البرنامج الأكثر شعبية في هذا المجال مع نحو 500 مليون مستخدم أسبوعياً، هو نموذج من الذكاء الاصطناعي التوليدي، مما يعني أنه يبتكر محتوى جديداً مستعيناً بكم هائل من البيانات المستقاة من مصادر متاحة علانية عبر الإنترنت. إذا سألته مثلاً عن "أفضل مكان لتناول القهوة قربي"، ستحصل على نتائج مفصلة تتضمن صوراً جذابة وخيارات من قوائم الطعام، ومواعيد العمل. أما البحث على "غوغل" فيتطلب منك تصفح عدد من المواقع الإلكترونية واستخلاص النتائج بنفسك.
وربما يبدو أداة مريحة جداً وآمنة تماماً، بيد أن التبعات الأخلاقية المحيطة باستخدام الذكاء الاصطناعي، مثل حقيقة أن مراكز البيانات الأميركية التي تغذي هذه النماذج تنتج انبعاثات كربونية مضرة بالمناخ تضاهي ما تطلقه صناعة الطيران المحلية، تجعل من هذه التكنولوجيا معضلة اجتماعية جديدة، تقتضي منا التعامل معها بحذر في تواصلنا مع الآخرين وعلاقتنا بهم.
لورا*، صحافية تبلغ من العمر 27 سنة، تعارض بشدة استخدام الذكاء الاصطناعي وترى أن النقاش في شأنه قد يعكر صفو أية علاقة غرامية. مشكلتها الرئيسة مع برامج مثل "تشات جي بي تي" تتمثل في تأثيره البيئي (طلب أو سؤال واحد عبر "تشات جي بي تي" يستهلك طاقة تفوق بنحو 10 أضعاف البحث عبر "غوغل"، وسنعود إلى هذه النقطة لاحقاً)، إضافة إلى أن الاعتماد المفرط عليه "يدفع الناس إلى الكسل"، وفق رأيها. تقول "عندما أسمع أشخاصاً يقولون إنهم يستخدمونه في إعداد قوائم التسوق أو وضع برامج العطلات أقول في نفسي، يا إلهي، استخدم عقلك".
وتوضح لورا أنها حين ترتبط بشخص يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي بانتظام، تفرض لورا حدوداً واضحة منذ البداية. "إذا أخبرني أحدهم أنه يستخدم ’تشات جي بي تي‘ فليس ذلك بمثابة إشارة خطر، لكنه يثير في نفسي شعوراً بالنفور. ومن الناحية المثالية، لا أريد مواعدة شخص يستخدمه كثيراً. ولكن مع ذلك، عندما خرجت مع أشخاص يستخدمونه، كنت شديدة الوضوح معهم... لا تستخدموه أمامي، وأرجو ألا ترسلوا لي أي محتوى طلبتم منه إعداده. غالباً ما احترموا رغبتي هذه، حتى أولئك الذين يعتمدون عليه بصورة كبيرة".
كذلك لا تدعي لورا أنها أفضل من غيرها أخلاقياً. وتوضح "مع أن (استخدام روبوتات الذكاء الاصطناعي) يثير في نفسي نفوراً، بيد أنني أدرك خلال الوقت نفسه أن بعضاً ربما يرى امتناعي عنه أمراً مستغرباً. يتبادل الجانبان كلاهما كثيراً من الأحكام، وأنا من جهتي أتقبل أن أتعرض للانتقاد بسبب رفضي اللجوء إليه".
من منطلق قناعاتها الشخصية، تتوقف لورا عن استخدام أية خدمة عبر الإنترنت تكتشف أن الذكاء الاصطناعي مدمج في ميزاتها، وتسعى جاهدة إلى تجنبها قدر الإمكان. وتقول في هذا الصدد "شخصياً، ليس هذا شيئاً أرغب في استخدامه أو التفاعل معه في أية حال من الأحوال". وتضيف "أدهشتني سرعة استسلامنا له إلى حد الخيبة، وكأن الأمر لا يستحق الوقوف عنده، كأننا استسلمنا قائلين ببساطة، حسناً إنه الواقع الآن".
خلال أبريل (نيسان) الماضي شارك الجميع من المشاهير إلى فرق الرياضة المحترفة في أحدث صيحات وسائل التواصل الاجتماعي المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، مستخدمين "تشات جي بي تي" لتوليد صور لأنفسهم على هيئة دمى حركة داخل علب بلاستيكية شبيهة بتغليف دمى "باربي". وأنشأت إحدى صديقاتي نسخة مصغرة تمثلها شبيهة بدمى "براتز"، تحمل في يدها اليمنى كوبها "ستانلي" المفضل المرجاني اللون، وفي يدها اليسرى هاتفها المحمول. ولكن هذه الصيحة لم تمر من دون انتقادات حادة، إذ عبر فنانون ومبدعون عن استيائهم معتبرين أن إنتاجات الذكاء الاصطناعي لا ترقى إلى مستوى الفن الحقيقي، وأن الانخراط في هذه الموجة يهدد مصدر رزقهم.
لورا بدورها شعرت بالانزعاج عينه، لا سيما عندما رأت عدداً كبيراً من معارفها يشاركون في هذه الصيحة. فقالت "رأيت مؤثرين، يزعمون التزامهم بأخلاقيات معينة، يشاركون في هذه الصيحة. ولم يمض وقت طويل حتى ظهرت صيحة أخرى يستخدم فيها الناس صوتاً مولداً بالذكاء الاصطناعي يروي قصة حياتك، كما لو أنها إعلان ترويجي لفيلم. عندما أشاهد ذلك، لا يسعني إلا أن أفكر، يا له من كسل مفرط".
ربما يقول بعض إن الذكاء الاصطناعي يفضي في نهاية المطاف إلى تبلد الذهن، بيد أن آثاره البيئية أشد وقعاً وخطورة بأشواط. وفق تقرير صدر عام 2024 عن منظمة "العمل المناخي ضد التضليل الإعلامي"، فإن الطلب المتزايد على الكهرباء نتيجة التوسع في استخدامات الذكاء الاصطناعي سيستدعي مضاعفة عدد مراكز البيانات، علماً أنها المنشآت التي تؤمن البنية التحتية الحيوية للذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية والخدمات الرقمية العامة. ويحذر التقرير من أن هذا التوسع، حتى في ظل تحسين كفاءة استخدام الطاقة في هذه المراكز، سيقود إلى زيادة في مستويات انبعاثات الغازات المسببة للاحترار العالمي بنسبة تصل إلى 80%.
لوسي أتكينسون أستاذة مساعدة في جامعة تكساس بأوستن ومتخصصة في دراسة انطباعات الجمهور حول الأثر البيئي للذكاء الاصطناعي، تقول إنها لاحظت وجود نقص في الوعي في شأن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي من جهة وانبعاثات الكربون من جهة أخرى. وأوضحت أن مراكز البيانات تستهلك كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية لتشغيل الخوادم، فترتفع درجة حرارتها، بالتالي يستدعي تبريدها استخدام كميات كبيرة من الماء.
وأضافت أتكينسون "لا شك في أن لبرنامج ’تشات جي بي تي‘ بصمة كربونية أكبر مقارنة بكثير من الوسائل التكنولوجية الأخرى التي نستخدمها"، مشيرة إلى أن أبرز البيانات التي استندت إليها في بحثها توضح أن "تشات جي بي تي" يستهلك طاقة تعادل 10 أضعاف ما يتطلبه إجراء بحث عبر "غوغل"، وأن 15 استفساراً على روبوت الدردشة الشهير تعادل من حيث استهلاك الطاقة مشاهدة ساعة كاملة من الفيديو. وتابعت "ربما تبدو هذه الأرقام متواضعة في ظاهرها، ولكن مع تجاوز عدد الاستفسارات عبر ’تشات جي بي تي‘ حاجز المليار يومياً، يتراكم التأثير البيئي بصورة كبيرة".
تتركز أبحاث أتكينسون في تكساس، الولاية التي تحتل المرتبة الثالثة في عدد مراكز البيانات داخل الولايات المتحدة، إذ تضم نحو 350 مركزاً على مستوى الولاية. ومن خلال الاستبيانات التي أجرتها بين سكان تكساس وجدت أن معظمهم لا يدركون أنهم يعيشون على مقربة من مركز بيانات، وأن التأثير البيئي للذكاء الاصطناعي أقرب إلى حياتهم مما يتصورون.
وتقول "ستحتاج مراكز البيانات عام 2027 إلى ضعف كمية الطاقة الكهربائية التي استهلكتها عام 2022، وجل ما نفعله أننا ببساطة نغذي هذا الوحش بمزيد من الاستفسارات". وتشير إلى أن "في التصور العام، هناك غموض في العلاقة بين مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والبيئة، على رغم أن هذا التأثير عميق جداً".
كجزء من بحثها الحالي، سألت أتكينسون المشاركين في تكساس عما إذا كانوا يعلمون أنهم يعيشون على مقربة من مركز بيانات، فأجاب ثلثاهم بالنفي أو بأنهم غير متأكدين. وأوضحت قائلة "من المرجح جداً أنهم يقطنون قرب مركز بيانات، لكنهم ببساطة لا يعرفون هذه الحقيقة". وأضافت أن أكبر تأثير بيئي تسببه هذه المراكز هو الاستهلاك الكبير للمياه، إلى جانب الطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيلها.
أضف إلى ذلك مشكلات أخرى تطاول السكان المجاورين لها، مثل التلوث الضوضائي وزيادة حركة المرور، وغيرها من تغيرات في استخدام الأراضي". ووفق خريطة مراكز البيانات، تضم المملكة المتحدة 428 مركز بيانات في المجموع، ومن التوقع أن يزداد العدد مع تزايد الطلب على الذكاء الاصطناعي.
جاكوب رانكين مصمم غرافيك يبلغ من العمر 29 سنة ويعمل في شركة تكنولوجيا معلومات مقرها لندن، يعتمد على "تشات جي بي تي" يومياً في إنجاز مهام تتعلق بالإنتاجية مثل إعداد ملخصات الاجتماعات وإرسال رسائل البريد الإلكتروني، وتنظيم الأعمال الموكلة إليه. يقول إن الذكاء الاصطناعي يثير نقاشاً واسعاً بين أصدقائه وغالباً ما يجد نفسه مضطراً إلى لعب دور "محامي الشيطان"، ويضيف "كثير منهم يتبنون توجهات يسارية ومهتمون بالقضايا البيئية، وغالباً ما يتطرقون إلى تلك الإحصاءات المتعلقة بكمية المياه التي يستهلكها "تشات جي بي تي".
ولكن من وجهة نظري، من الصعب دفع الناس إلى الاهتمام بالمناخ في مواقف معينة، كأن تكون الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة، ويسألك مديرك "هل يمكننا إنجاز هذا الملف بحلول الغد؟" في تلك اللحظة، هل ستنقر على زر الذكاء الاصطناعي وتنجز المهمة في ثانيتين، أم ستتولاها بنفسك؟ في رأيي، الفائدة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي خلال لحظات على هذه الشاكلة تفوق كثيراً الاعتبارات البيئية."
ومن وجهة نظر رانكين، الجزء الأكبر من الشكوك والتحفظات في شأن الذكاء الاصطناعي تصدر عن أشخاص غير ملمين به. أما في بيئة عمله فيلقى التشجيع على استخدامه في مهامه اليومية، ولا يعتريه أي قلق من احتمال أن يحل محله في المستقبل. و"في النهاية، يعرف المرء متى يكون الذكاء الاصطناعي أداة فاعلة، ومتى لا يفي بالغرض. عندما بدأت النقاشات الجادة في شأنه قبل بضعة أعوام، أدركت أنه من الأجدر بي أن أتعلم استخدامه بسرعة كي أتمكن يوماً ما من إقناع الآخر لماذا ما زلت أفضل من هذا الذكاء. إذا تعاملت معه يومياً، ستعرف أنه لا داعي للشعور بأي قلق".
كثر ممن تحدثت إليهم خلال إعداد هذه المقالة يعترفون بوجود نوع من التردد أو الحيرة الأخلاقية في لجوئهم إلى الذكاء الاصطناعي، ولكنهم يرون أنه لا مفر منه مع استمرار شركات مثل "آبل" و"مايكروسوفت" و"ميتا" في دمج ميزات الذكاء الاصطناعي الإلزامية ضمن منصاتها.
وتقر أتكينسون نفسها بأنها تشعر بـ"الذنب" لاستخدامها "تشات جي بي تي" في إنجاز أمور ربما كان في مستطاعها الانتهاء منها بمفردها. استعانت أخيراً بروبوت الدردشة في الإعداد لرحلة خارج البلاد، بما في ذلك حجز تذاكر الطيران وتنظيم برنامج الرحلة. ولكن النتيجة التي حصلت عليها لم تخل من أخطاء ومعلومات عير دقيقة. "اقترح ’تشات جي بي تي‘ رحلة طيران كنت أعرف أنها لم تعد متوافرة. فسألته، هل أنت متأكد من هذه الرحلة؟ كنت أتحدث إليه بتهذيب بالغ، كما يفترض بنا أن نتعامل مع الروبوتات. فأجابني بأدب شديد، أعتذر إليك معلوماتي مبنية على بيانات قديمة".
سواء كانت تقض مضجعك كوابيس حول الذكاء الاصطناعي أو كنت ممن يفتخرون باستخدامه، لا بد من وجود وعي أوسع بحقيقة أن البيانات التي يستند إليها ربما تكون مغلوطة، مما يستدعي منا إخضاع نتائجه دائماً للتمحيص والمراجعة والتدقيق. وتقول أتكينسون "أطلب أحياناً من ’تشات جي بي تي‘ إنتاج صور لي، ولكنها كثيراً ما تأتي دون المستوى المطلوب"، وتستدرك "ولكن مع ذلك، يتحسن أداؤه يوماً بعد يوم".
ربما استأثر "تشات جي بي تي" باهتمام أصدقائي وأفراد عائلتي، ولكنه أبعد ما يكون عن مضاهاة عقل الإنسان المفكر بحق، وفي هذه الحقيقة عزاء لنا... ولو إلى حين.