9 مايو 2025
30 إبريل 2025
يمن فريدم-UN-YEMEN


في دولة مثخنة بجروح سببتها حرب دامت أكثر من عقد من الزمان، يحمل اليمنيون أعباء أثقل مما تبدو للعيان. قتلت الحرب الناس، وحرمتهم من مصادر رزقهم، ولكنها أيضاً دمرت صحتهم العقلية والنفسية. وبالنسبة للعديد من الأسر النازحة، أصعب المعارك ليست دائماً أكثرها صخباً.

تتذكر اعتصام البالغة من العمر 13 عاماً وقتاً أكثر هدوءً من الوقت الحالي. حيث كانت أيامها مشغولة بالذهاب إلى المدرسة، والضحك، واللعب مع أخيها في المنزل. وكان يعمل والدها عصام نجاراً في ورشة صغيرة ويصنع من الخشب قطعاً جميلة.

أما والدتها رشيدة، فكانت تمضي أوقات العصر في الخياطة، وحياكة الملبوسات ونشر الحب في جميع زوايا البيت. وفي كل مساء، تجتمع العائلة لتناول وجبة العشاء وتتبادل أطراف الحديث حيث تتعالى أصوات الضحك في منزلهم الدافئ.

انتهت تلك الحياة الجميلة فجأة عندما وصلت الحرب إلى عتبة منزلهم في محافظة ذمار. ومع اشتداد القتال تغلب شعور الأسرة بالخوف على الإحساس بالأمان. ومع زيادة خطورة الموقف، لم يكن لديهم خيار سوى الفرار. تاركين ورائهم المنزل الذي بنوه، والراحة والأمان الذي كان يوفرهما لهم.

وفي نهاية المطاف، وصلت أسرة اعتصام إلى مخيم الجفينة، أكبر مخيم للنازحين في اليمن، حيث يضم أكثر من 15.000 أسرة. الحياة صعبة هناك: الحرارة شديدة، والمآوي مرتجلة مما يجده الناس حولهم، والخدمات الأساسية نادرة. وبالنسبة لغالبية الأسر، يمثل كل يوم معاناة جديدة للحصول على القليل من الطعام.

"اشتقت لضحكات أطفالي التي كانت تملأ البيت فيما مضى. اعتراني قلق شديد حيال توفير احتياجات أسرتي الأساسية." – رشيدة، أم نازحة

مُعاناة خفية

كانت رؤية رشيدة لزوجها عصام وهو يغوص أكثر في الحزن وخيبة الأمل أمراً ثقيلاً عليها. وفي ظل عدم اليقين، عمدت إلى ممارسة الخياطة، مصممة على إدخال بعض الاستقرار إلى حياتها هي وأسرتها. ومع ذلك، لم يكن هناك شيء ليجهزها لعمق واقع النزوح وأثره الدائم عليها وعلى أسرتها.

بالنسبة لاعتصام، أصبح الذهاب إلى المدرسة معركة يومية. حيث شعرت أنها عالقة ما بين تعليمات والدها الصارمة والتنمر المستمر من زملائها في الدراسة الذين كانوا يسخرون من المعاناة المادية التي تعيشها عائلتها.

ولأنها كانت غير قادرة على شراء المستلزمات الدراسية، كانت تشعر أنها وحيدة في معاناتها بين زملائها في الدراسة، وأصبحت معاناة أسرتها المادية سبباً لشعورها بالإحراج.

وتتذكر رشيدة: "بدأت ألاحظ أن أبنتي تحاول ابتداع أي سبب للبقاء في المنزل، أو تبكي إلى أن أسمح لها بالبقاء،" وتضيف: "حاول المعلمون في المدرسة مساعدتها، ولكن تركيزهم عليها جعلها تنطوي على ذاتها بشكل أكبر".

وخلال أسابيع، بدأت الفتاة ذات الروح العالية، التي كانت تضحك وتلعب مع صديقاتها في الحي، تعزل نفسها كلياً.

وكلما نادتها والدتها لم تكن اعتصام ترد عليها. وعادة ما كانت رشيدة تجد اعتصام موصده الباب على نفسها في غرفتها أو مختبئة في الحمام وتبكي بصمت.

وأبلغ المدرسون عن تصرفات مماثلة في المدرسة، وأشاروا إلى أن اعتصام تختبئ تحت طاولتها وتنحب بصمت.

مع مرور الأيام، ازدادت الاضطرابات الداخلية لدى الطفلة اعتصام عمقاً، مما دفعها إلى الانسحاب أكثر فأكثر إلى داخل نفسها.

أصبح الانعزال الاجتماعي هو الوضع الطبيعي بالنسبة لها، وتلاشى فضولها القوي الذي كان يميزها، لتحل محله حالة من الحزن العميق. كانت رشيدة تراقب ابنتها بعجز، غير قادرة على الوصول إليها.

"لم أكن أرغب في رؤية أحد، ولا حتى مغادرة غرفتي. كان الأمر أشبه بأن الجدران تضيق من حولي، وكل ما كنت أفكر فيه هو الهروب من الجميع." – اعتصام، ابنة رشيدة

التغلب على الوصمة المجتمعية

في اليمن، ما تزال الوصمة الثقافية المرتبطة بالصحة النفسية حاضرة وبقوة، وذلك يعزز المفهوم الخاطئ بأن الدعم النفسي لا يحتاجه إلا من يعانون من أمراض نفسية حادة.

هذا الاعتقاد يُثني الكثيرين عن التعبير عن معاناتهم بشكل علني، ويدفعهم لتحمل الألم في صمت.

أما المجتمعات النازحة، والتي تعيش أصلاً في ظروف هشّة نتيجة الصراع، فغالباً ما تواجه عوائق إضافية عند السعي للحصول على دعم نفسي.

"في البداية، كان من الصعب جدًا على ابنتي أن تعيش في مجتمع يعتقد الناس فيه بأنها فقدت عقلها"، تعترف رشيدة. "جيراننا كانوا ينصحوننا باستمرار بالابتعاد عن مراكز الصحة النفسية."

مع تزايد الحاجة إلى الدعم بخدمات الصحة النفسية بسبب استمرار الأزمة، تدخلت المنظمة الدولية للهجرة لمُساندة المجتمعات الضعيفة. وبعد إنشاء مركز الدعم النفسي والاجتماعي في مخيم الجفينة، أصبحت المنظمة قادرة على تقديم خدمات أساسية تهدف إلى مساعدة الأفراد والعائلات في التعامل مع الآثار النفسية الناجمة عن الصراع والنزوح.

وفي خضم هذه المعاناة، اكتشفت رشيدة الدعم المتوفر في مركز المنظمة الدولية للهجرة في الجُفينة. ولأنها شاهدت ابنتها اعتصام وهي تغرق في القلق والانزعاج، قررت أن تطلب المساعدة من المختصين.

تقول رشيدة:" أدركت أن مشاكل الصحة النفسية تستحق رعاية متخصصة تماماً كما هو الحال مع الأمراض الجسدية. كل ما كنت أريده هو مكان يقدم لابنتي الدعم الذي تحتاجه".

الطريق إلى التعافي

يؤدي سامح عجلان، أحد موظفي الدعم النفسي والاجتماعي في المنظمة، دوراً محورياً في المركز، حيث يستقبل الزوار بابتسامه وهدوء، ويساعد في رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية في المجتمع.

وفي المساحات الصديقة للأطفال، يساعد سامح وزملاؤه الأطفال والعائلات في التعامل مع الصدمات والتوتر والاكتئاب وغيرها من التحديات النفسية. يشرح سامح:

"كل مرة أرى فيها طفلًا يبتسم من جديد، أتأكد أن الصحة النفسية تستحق التقدير والاهتمام. فالأطفال يستحقون أن يعيشوا بسلام في كل مكان، وليس فقط في هذه المساحات الآمنة".

من خلال جلسات فردية وجماعية، يساعد فريق سامح المشاركين على تطوير آليات للتكيف وبناء المرونة النفسية. كما يقدم الفريق خدمات إدارة الحالات، وتحويل الأفراد للحصول على رعاية متخصصة عند الحاجة.

وكغيرها من الأطفال الذين يترددون على المركز، وجدت اعتصام السكينة والراحة من خلال المتابعة النفسية المستمرة والعلاج النفسي. وشيئاً فشيئاً، بدأت تستعيد ثقتها بنفسها وتتواصل مجدداً مع من حولها.

تقول اعتصام: "الآن أشعر أنني قريبة من عائلتي وأصدقائي مرة أخرى. لم أعد أشعر بالخجل، وعودتي إلى المدرسة جعلتني أشعر أنني استعدت جزءاً من نفسي كنت أظن أنني فقدته".
 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI