في مدينة تعز اليمنية، لا يحتاج السكان إلى نشرة جوية لمعرفة حالة الطقس. يكفي أن تراقب وجوه النساء والأطفال العائدون يوميًا من محطات التوزيع وصهاريج الشوارع بخطوات ثقيلة ووجوه يعلوها إرهاق مزمن.
إنها أزمة المياه التي تحولت من مشكلة بيئية إلى مأساة مركبة، تجتمع فيها آثار الصراع، وتداعيات التغير المناخي، وسوء الإدارة الحكومية، لتترك ملايين السكان يواجهون العطش في صمت موجع ونسيان من السلطات المعنية .
شبكة منهارة وأحواض محاصرة
قبل اندلاع الحرب في عام 2014، كانت مدينة تعز تعتمد على 88 بئرًا لضخ المياه، وتغطي شبكتها العامة نحو 57% من احتياجات السكان اليومية، بإنتاج يزيد على 20.000 متر مكعب يوميًا. لكن مع اشتداد المواجهات، دُمرت 67 بئرًا وتضررت أكثر من 127 كيلومترًا من شبكات التوزيع، لتتراجع قدرة الشبكة بشكل حاد.
وبحسب تقرير مكتب المياه والصرف الصحي في تعز لعام 2024، لا يتجاوز إنتاج المياه الحالي 2.500–3.000 متر مكعب يوميًا، أي أقل من 20% من الاحتياج اليومي المقدر بـ20.000 متر مكعب، وهي نسبة لا تكفي الحد الأدنى من متطلبات السكان.
وبحسب المهندس محمد الصبري، أحد موظفي المؤسسة المحلية للمياه فإن البنية التحتية تدهورت إلى حد مخيف. فقط 29 بئرًا تعمل من أصل 88 بئرًا، وانقطعت خطوط الضخ الرئيسية بفعل القصف وتآكل الأنابيب. حتى الصيانة الطارئة أصبحت مستحيلة مع غياب التمويل والدعم.
تزيد السيطرة المتداخلة للأطراف المتحاربة من تعقيد الأزمة؛ إذ تقع أربعة من أصل خمسة أحواض مائية رئيسية تحت سيطرة الحوثيين أو في مناطق التماس، ما يعيق الوصول إليها وصيانتها بشكل دوري.
هذا النقص الفادح دفع الأهالي للاعتماد شبه الكامل على الصهاريج، التي ارتفعت أسعارها بنحو 300% خلال العامين الأخيرين، حيث وصل سعر صهريج سعة 1.000 لتر إلى 170.000 ريال يمني (حوالي 60 دولارًا)، وهو ما يزيد عن راتب موظف حكومي شهريًا بنسبة 50 %.
في أحياء مثل صالة والمظفر، تضطر النساء والأطفال للوقوف ساعات طويلة للحصول على حصتهم المحدودة من مياه الشرب.
تقول أم يوسف من حي صاله:"أحيانًا نعيش ثلاثة أيام على الماء المخزن في الجالونات. لو نفد قبل أن نجد صهريجًا بسعر معقول، نشرب أي شيء متاح".
أما التحدي الأشد خطورة، فهو ما أعلنه تقرير البنك الدولي عن أن معدلات هبوط المياه الجوفية تتراوح بين 6 و8 أمتار سنويًا بسبب السحب المفرط والاستخدام الزراعي غير المنظم.
أسعار باهظة ومخاطر صحية
العجز الفادح في توفير المياه دفع الأسر إلى الاعتماد على شاحنات مياه خاصة، ارتفع سعرها بنسبة 200% خلال عامين.
وصل سعر شاحنة مياه سعة2.000 لتر إلى 70ألف ريال يمني رغم وضع تسعيره رسمية بنفس التسعيرة السابقة إلا أن مالكي الشاحنات رفضوا الإلتزام بها بسبب صعوبة الحصول على المياه من المصادر واضطرارهم للانتظار لأيام تصل إلى 4 أيام لتعبئة الشاحنات قبل بيعها، وهو ما يؤخر وصول المياه إلى السكان في مدة تصل أحيانا إلى اسبوعين .
تقول فاطمة محمد سعيد، وهي أرملة تعول خمسة أطفال: "نحن لا نشرب.. نحن ننجو من الموت فقط. يوم نلاقي وايت ماء بسعر معقول ويوم لا. مرات نعيش 3 أيام نشرب من الجالونات المخزنة".
وفق تقديرات اليونيسف عام 2023، يعتمد نحو 60% من الأسر على مياه مخزنة بطرق غير صحية، ما يزيد تفشي الكوليرا والإسهال المائي الحاد.
وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية عن تسجيل أكثر من 29.500 حالة إصابة مشتبه بها بالإسهال المائي حتى إبريل 2024.
النساء والأطفال.. الضحايا الصامتون
تقع المسؤولية الكبرى لجلب المياه على عاتق النساء والفتيات، اللواتي يقطعن أحيانًا مسافات طويلة في ظروف محفوفة بالمخاطر. تقول سميحة، من وادي صاله الواقع بالقرب من خطوط النار في الجهة الشرقية: "النساء والفتيات يحملن الماء على رؤوسهن أو ظهور الحمير. هذا تعب يومي لا ينتهي".
هذا العبء لا يحرم النساء من التعليم والعمل فحسب، بل يهدد صحتهن بانتشار التهابات المسالك البولية والأمراض الجلدية.
أما الأطفال، فيتركون مقاعد الدراسة لمرافقة أمهاتهم أو لجلب المياه بأنفسهم، ليعيشوا طفولة مثقلة بالخوف والمرض والحرمان.
تغير المناخ.. ضغوط إضافية
يعمّق التغير المناخي جروح تعز القديمة. فأنماط الطقس صارت أكثر تقلبًا، وفترات الجفاف أطول، ما يعطل أي محاولات لتعويض المخزون المائي المستنزف.
بحسب البنك الدولي، تتراجع مستويات المياه الجوفية بمعدل 6–8 أمتار سنويًا نتيجة الضخ العشوائي وزيادة الاستهلاك. ومع تزايد درجات الحرارة، يزداد الضغط على المجتمعات الزراعية والريفية، ما يغذي دوامة النزوح والهجرة بحثًا عن الموارد.
حكومات عاجزة وحلول غائبة
رغم خطورة الوضع، لم تتمكن السلطة المحلية من تقديم حلول حقيقية. لجأت السلطات إلى قرارات بتسعيرة المياه، لكنها بقيت حبرًا على ورق. يتهم مسؤولون محليون الأطراف المتحاربة باستخدام المياه كورقة ضغط، بينما تتحدث تقارير عن استغلال محطات التحلية للأزمة.
يقول أحد موظفي مكتب المياه (فضّل عدم الكشف عن هويته): "هناك فساد يعرقل توزيع المياه، ومحطات التحلية ساهمت في افتعال الأزمة".
من جهة أخرى، يرى مراقبون أن شح التمويل وصعوبة دخول المنظمات إلى مناطق السيطرة المتداخلة، بين الحكومة والحوثيين، يفاقمان الأزمة.
ويوضح ناشطون بيئيون أن خطط إصلاح الشبكة المائية أو الاعتماد على مصادر الطاقة الشمسية تتطلب إرادة سياسية وموارد غير متوفرة حاليًا.
في ظل كل هذه التحديات، يظل أطفال تعز ضحايا الجفاف المزمن الذي لا تلوح له نهاية. وبينما تتسابق الأمم لمواجهة تغيّر المناخ، يواجه سكان هذه المدينة صراعًا يوميًا من أجل شربة ماء قد تكون الفارق بين الحياة والمرض.
أزمة المياه في تعز ليست مجرد قصة عطش، بل صرخة استغاثة تطالب بإنهاء الصراع وبناء مستقبل إنساني كريم.
إنها مدينة صامدة، تواجه حربًا خفية ضد الجفاف، وتحتاج إرادة سياسية وتعاونًا دوليًا حقيقيًا لتستعيد حقها البسيط في الحياة.
طرق الخروج.. حلول مؤجلة
إن إنقاذ تعز من العطش يتطلب إجراءات جذرية لا ترقيعيه، من ضمنها إعادة تأهيل الشبكات وتحصينها ضد الصراع، والاستثمار في حصاد مياه الأمطار وبناء حواجز في الأودية.
بالإضافة إلى معالجة مياه الصرف الصحي لاستخدامها زراعيًا ،و تمكين المجتمعات لإدارة مواردها المائية، وقبلها وقف النزاع المسلح لحماية البنية التحتية.