«أنا رجب طيب إردوغان ولست النبي»؛ قالها الرئيس التركي لنظيره العراقي الراحل جلال طالباني حين التقيا في مارس (آذار) 2008، بينما كان كاميران قرداغي يستمع إليهما وهما يبحثان مصير « حزب العمال الكردستاني»، الذي يخوض اليوم مخاضاً مع الدولة التركية، بعد إعلانه نهاية عقود من الكفاح المسلح، بجملة شروط.
كان قرداغي يومها قد تقاعد من منصبه رئيساً لديوان الرئاسة العراقية، ومستشاراً بارزاً لطالباني، لكن الأخير طلب مرافقته إلى أنقرة، «للاستفادة من علاقاته مع الأتراك». بحث طالباني عن أجوبة صريحة من إردوغان وفق شهادة قرداغي. يبدو أنه لم يحصل عليها. في البداية، فضّل الرئيس العراقي الراحل طرح سؤال صريح: «سيد إردوغان، لو نزل الآلاف من مقاتلي قنديل من الجبل، وأرسلناهم إلى تركيا، أين سيذهبون؟ إلى السجن أم إلى منازلهم؟»
صمت إردوغان متبرماً. انتبه قرداغي، الذي كان يشهد الحوار، إلى أن الرئيس العراقي المعروف بالحنكة والمكر، قد غيّر تكتيك الأسئلة؛ إذ قال: «هل أنت مسلم صالح يا سيد إردوغان؟». لم يتردد الرئيس التركي في الرد: «نعم، بالتأكيد». زاد طالباني: «وهل تتخذ من النبي محمد قدوة لك؟».
بنظرة المندهش، رد الرئيس التركي: «ما من مسلم صالح لا يفعل ذلك». ثم انقض طالباني على فرصته لانتزاع كلمة عصيّة من لسان إردوغان: «لماذا إذن لا تفعل ما فعله النبي عملاً بالآية القرآنية: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)». قال الرئيس التركي: «أنا رجب طيب إردوغان ولست النبي محمد».
انتهى اللقاء، بينما مسلحو جبل قنديل، في المثلث العراقي - التركي - الإيراني، يدّخرون يومها الخيبة من ثلاث عمليات متعثرة لوقف النار مع الدولة التركية.
في 27 فبراير (شباط) 2025، دعا الزعيم الكردي عبد الله أوجلان حزبه «العمال الكردستاني» إلى إلقاء أسلحته وإنهاء المواجهة المسلّحة مع الدولة التركية، وإلى حل الحزب. كثيرون ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» في هذا التحقيق، الذي يراجع محطات في الصراع الكردي - التركي، يعتقدون أن العملية طويلة وغير مضمونة، لكنهم يعترفون – حتى أولئك «الستالينيون» بينهم – بأن العالم، والشرق الأوسط تحديداً، تغير ويتغير على نحو غير معهود.
المسافة بين أنقرة وقنديل نحو 1000 ميل، وهي أطول من ذلك بين إردوغان وقادة الجبل؛ يظن «العمال» أنه يرمي الكرات في ملعب الرئيس التركي منتظراً رداً حاسماً، لكن الأخير غالباً ما يمتص التوقعات العالية، ويتصرف كمن يطلب المزيد والمزيد. المسافة قد تطول أكثر، كما فعل التاريخ بينهما مرات ومرات.
هذه المرة، اقتنع أوجلان بإلقاء السلاح لأن «العزلة أثرت عليه»، كما أنه «سياسي يتعلم، يتكيف ويتغير» من ثورية كارل ماركس إلى لا مركزية موراي بوكتشين. أما إردوغان فيحتاج إلى «نصر كبير»، لكن «على طريقته الخاصة»، كما يقول معنيون بأنقرة وقنديل، من معارضين ومؤيدين.
بعد نحو شهر ونصف الشهر من محاولات التواصل مع أشخاص معنيين بملف حزب العمال في أنقرة، أربيل، السليمانية، برلين، لندن، القامشلي، وبغداد، انتقل مسار هذا التحقيق الصحافي من تقصي تاريخ الجماعة الكردية «الثورية» ومستقبلها بعد نزع السلاح، إلى قناة للمناظرة السياسية بين خصمين لا يبدو أنهما كانا مستعدَين لتبادل الثقة، أو حتى تقديم الضمانات بشأن كيفية إحلال السلام في المنطقة بعد عقود من النزاع، حتى تغير الكثير في المنطقة والعالم.
شكّل تعقّب الرواية الحقيقية عن قنديل أحد أكثر التحديات في هذا التحقيق؛ بسبب تشابك سرديات متضاربة بين ما يتبناه حزب العمال جانباً وحيداً من الحقيقة، وما تدّعيه السلطات التركية ومصادر معارضة للحزب. ورغم قلة المصادر المستقلة، أسهم شهود على حوادث وأشخاص ضالعون في قصة قنديل، في سرد الصورة الأقرب لما يجري تحت ظلال تلك الجبال، وما حولها.
الصندوق الأسود
أحيطت جبال قنديل الواقعة عند المثلث العراقي - التركي - الإيراني بالأساطير. ولأن الوصول إليها صعب لأسباب أمنية وأخرى تتعلق بالجغرافيا؛ اكتسبت الأساطير منزلة الحقائق، منها أن مقاتلي «العمال» يجندون الأطفال، ويخطفون الشباب.
على مدى عقود لم يثبت أحد صحة المزاعم. يقول مناصرو الحزب إنها «حرب دعائية متجذرة في تركيا»، رغم أن ضالعين في أجهزة أمنية وسياسية في أربيل وأنقرة يصرّون على صحتها.
يزعم محمد أرسلان، وهو كاتب كردي من مناصري الحزب، أن «أجهزة استخبارات اجتهدت كثيراً في صياغة بروباغاندا مناهضة للحزب».
وصل «العمال» للمرة الأولى إلى الجبل وتمركز فيه عام 1991. قرداغي الذي عاين السلسلة الوعرة حين التحق بـ«الثورة الكردية» منتصف السبعينات، يقول في شهادته لـ«الشرق الأوسط».
اكتشف المقاتلون الكرد أنهم يتمركزون في موقع استراتيجي لا مثيل له. «منطقة وعرة حصينة، يصعب على أي قوات برية الوصول إليها»، يقول قرداغي إن الوصول إليها من بلدة رانيا، شمال شرقي السليمانية، يتطلب عبور 7 قمم مشياً على الأقدام.
تماماً كالأحزاب اللينينية، بنى الحزب هيكله في قنديل بمركزية آيديولوجية يضبط إيقاعها عبد الله أوجلان من سجنه في جزيرة إمرالي الذي أودع فيه عام 1999. مع ذلك، طورت الجماعة أساليب عملها، وإلى حد ما «صار الهيكل مرناً».
على رأس الحزب، وفق جوماني، يوجد المجلس التنفيذي (KCK)، المظلة التي تشمل «العمال» وأحزابه الشقيقة في تركيا، وسوريا، والعراق وإيران، ويشرف على القرارات الاستراتيجية والتنسيق السياسي. ولأن الحزب يعمل بالقيادة المشتركة بين رجل وامرأة؛ فإن الـ«KCK» يُرأس بشكل مشترك من قِبل قائدين رئيسيين؛ جميل بايك وبسه هوزات.
عسكرياً، هناك قوات الدفاع الشعبي (HPG) هي الجناح المسلح للحزب، قادها مراد قريلان لسنوات، ولعب باهوز أردال تاريخياً دوراً بارزاً فيها.
إلى جانب المهمات العسكرية، تشرف هذه القوات على تنفيذ «جميع القرارات الكبرى، من الدبلوماسية إلى الحكم المحلي في المناطق التي تقع تحت نفوذ الحزب». لكن آليات اتخاذ القرار تطورت بفعل «التأثير الآيديولوجي للكونفدرالية الديمقراطية لعبد الله أوجلان». بات الحزب يدار جماعياً في قنديل، كما يقول جوماني.
برج مراقبة إقليمي
بعد خمسة عقود من زيارتها للمرة الأولى، لا يستطيع كاميران قرداغي تخيل جبال قنديل سوى «جنة» للسياحة. عام 1974 عبَر الرجل القمم السبع في السلسلة المتفرعة من جبال زاكروس وشاهد منطقة تزخر بالخيرات البرية والطيور النادرة، إلى جانب ثروات معدنية.
قنديل جزء من سلسلة زاكروس. تقع في قلب ما كان يسمى «كردستان الكبرى»، وكانت حداً فاصلاً بين «بلاد فارس» و«الإمبراطورية العثمانية». إنها برج مراقبة إقليمي بين ثلاث دول.
مع دخول مقاتلي «العمال» إلى المنطقة، واستقرارهم في الجبال، تحولت قنديل مستعمرةً. أُنشئت هناك مؤسسات تعكس الهيكل الهرمي والقيادي؛ مدارس لتعليم عقائد الحزب وأفكار أوجلان ومذاخر سلاح وأدوية، إلى جانب معسكرات تدريب، ومقار سياسية وإعلامية. هناك أيضاً محاكم وسجون.
من بين المعسكرات، وفق شهادة عضو سابق في الحزب رفض ذكر اسمه للتحقيق، مواقع لوجيستية لتجهيز متدربين محترفين لتنفيذ عمليات خارجية. قال إنها «تحضيرات لعمليات نوعية قد تتطلب زرع قنابل أو تفجير مواقع».
أنشأ الحزب في قنديل 7 مقابر لدفن مقاتليه الذين سقطوا في المواجهات مع القوات التركية وغيرها داخل المنطقة، وتقع أقدم مقبرتين في قنديل، وتتوزع البقية بين الزاب وزاكروس. يقدّر محمد أرسلان عدد القتلى في هذه المقابر بأكثر من 1000 مقاتل، بينما يعيش في الجبال حتى اليوم نحو 5 آلاف مقاتل، رغم أن مجموعة الأزمات الدولية كانت تقدر عددهم بنحو 7 آلاف مقاتل.
المقاتلون في قنديل انعكاس ديموغرافي لانتماءات الكرد في الدول التي توزعوا إليها مطلع القرن العشرين؛ تركيا، العراق، إيران وسوريا. يقول ضابط استخبارات كردي من أربيل عاصمة إقليم كردستان، مطلع على تفاصيل في «ملف العمال»، إن قرارات قنديل تأثرت بهذا التنوع؛ إذ «يُعرف المقاتلون المنحدرون من إيران وسوريا بانشغالهم بقضايا بلدانهم، على خلاف العراقيين والترك، الأكثر تشدداً».
لا يتفق مسؤول في الحزب مع هذه الفرضية، وقال شريطة عدم الكشف عن هويته.
كثيرون حول الجبل يرون قمته معقلاً لحياة حزبية متكاملة، يسكنها «بارتيزانيون»، وهو تعبير للدلالة على أفراد جماعات التمرد والمقاومة. يعتقد المقاتلون الكرد، في غالبيتهم الساحقة، أن «الأتراك هم عدوهم الأول» وفق شهادة عضو سابق في الحزب، قال إن «هذه السردية متجذرة لأن الكردي موصوم بأنه إرهابي في تركيا».
«قانون الجبل»... زنزانة الكفاح المسلح
تحول الجبل قلعةً «بارتيزانية». كل شيء يسير وفق قواعد الكفاح المسلح. يقول جبار القادر، وهو من أصول كردية من كركوك العراق.
سألنا عدداً من الذين كانوا ينشطون في بيئة «العمال» عن ضوابط وأنظمة قنديل. قالوا إنهم شهدوا «حياةً داخل ما يشبه لعبة الحبار». ثمة عواقب لكل خطأ، وسجن لكل خائن. قال أحدهم، شريطة عدم الكشف عن هويته، إن «قانون الجبل شديد الصرامة، ونادراً ما كانت الزنازين الانفرادية خالية في الجبل».
في حوار سابق لـ«الشرق الأوسط» نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، كشف عثمان أوجلان، وهو شقيق زعيم الحزب، عن اعتقاله 3 سنوات داخل قنديل، أمضى منها ثلاثة أشهر في زنزانة انفرادية؛ لأنه قدم مشروعاً للتغيير والإصلاح. دوران كالكان، وهو قيادي عسكري في قنديل، من أصول تركية، كان قد وصف عثمان أوجلان في حوار مع موقع «فرات» المقرب من الحزب، بأنه «صاحب خط انهزامي».
«قانون الجبل مصطلح مجازي» يقول جبار قادر. هناك أعراف تتبعها الحركات التابعة للأحزاب الستالينية.
خلافاً للأساطير، ثمة قواعد صارمة يطبقها المقاتلون في الجبل، ومنها أن «الزواج ممنوع، وكذلك تكوين العلاقات العاطفية وممارسة الجنس». كل شيء مدوَّن في «منهاج داخلي معتمد»، وفق كثيرين كانوا مجندين في الجبل.
وتعدّ آيديولوجية الحزب أن الارتباط العاطفي «يلهي المقاتل عن النضال الثوري»، ويعارض «الانضباط الجماعي»، وهو سياق معتمد في جماعات مختلفة حول العالم، مثل «جيش الرب» في أوغندا والفصائل الماوية في النيبال والهند.
«أسطورة» أردال... طبيب الجبل
على قمة الجبل هيكل قيادي، وثمة رجلان تدور حولهما قصص وأساطير؛ جميل بايك وباهوز أردال.
بايك الكردي التركي المولود في شرق الأناضول عام 1955، واسمه الحركي جمعة، هو الرئيس المشترك لمنظومة «KCK» في قنديل.
أما أردال واسمه الحركي فهمان حسين، فهو من مواليد ديريك (المالكية) في الحسكة بسوريا عام 1969، كان قد ترأس قوات الدفاع الشعبي من يونيو (حزيران) 2004 حتى يوليو (تموز) 2009.
لطالما كان أردال ملهماً للمجندين الشباب الذين أُعجبوا بحزب العمال. كثير منهم صعد إلى الجبال وانخرط في التجربة «الثورية» تأثراً به.
خلال العقدين الماضيين كان حزب العمال ودوداً مع الصحافيين والناشطين، يستضيفهم للتعرف على المنطقة والحزب. كان الهدف هو عكس صورة مختلفة عن المجموعة التي تصنفها دولٌ «إرهابيةً». من بين الذين زاروا منطقة الزاب، حيث المرتفعات المطلة على النهر المنحدر من بلدة هكاري التركية، صحافي كردي التقى بأردال عام 2008.
يرى كمال جوماني، أن أردال «قائد ميداني بارز في المواجهات مع القوات التركية منذ عام 2004. أصبح شخصية مشهورة عندما فشل الجيش التركي في التقدم في الزاب». يومها كانت أنقرة تنفذ عملية «الشمس» داخل الأراضي العراقية.
زادت شعبية أردال بين الكرد المتحمسين لـ«الثورة» حين عاد من «الموت إلى الحياة». ففي صبيحة 8 يوليو 2016 نشرت وكالة «الأناضول» التركية خبراً عن اغتيال أردال بهجوم نفذته جماعة «كتائب تل حميس» قرب القامشلي شمال سوريا. بعد أيام قالت الاستخبارات التركية إنها «مصدر القصة» وفق صحيفة «يني شفق».
خمسة أيام بعد اغتياله، ظهر أردال في مقطع صوتي قائلاً إنه «على قيد الحياة». شكك الإعلام التركي في سلامة الصوت. بعد عام خرج أردال في شريط مصور يجري مقابلة مع صحافي كردي. بين الواقعتين، مات أردال وعاش مراراً.
حين عقد «العمال» المؤتمر الثاني عشر في أبريل (نيسان) 2025، لم يظهر أردال في الأشرطة المصورة التي بثها الحزب. عادت شائعات اغتياله أو وفاته، إلا أن مصدراً مقرباً منه أكد لـ«الشرق الأوسط» وجوده في سوريا وقت المؤتمر الذي أُعلن فيه «حل الحزب».
رغم أن أنصار «العمال» يحبون مناداته بـ«الطبيب أردال»، فإنه لم يكمل دراسة الطب في جامعة دمشق، وفق مصدر من قنديل؛ إذ ترك الجامعة أواخر الثمانينات للانضمام إلى «الكفاح المسلح». ويرجّح مصدر أن يكون أردال قد تقاسم مقعد دراسة في دمشق مع بشار الأسد، الذي تخرج عام 1988.
أردال من بين قلة يعتمد عليهم حزب العمال في الميدان. زادت أهميته خلال المعارك ضد «داعش» عام 2015، حين نسق مع قوات «البيشمركة» التابعة لحزب طالباني في السليمانية، وفصائل موالية لإيران على توزيع القطعات وإدارة المعارك.
المقلب السوري
على المقلب الآخر، يعدّ مظلوم عبدي، القائد الحالي لقوات «قسد» في سوريا، من المقربين لأردال. نشأ عبدي منذ عقده الثاني في كنف ابن بلده سوريا، وقائده العسكري. يقول مصدر من داخل قنديل، إن «عبدي ترك حزب العمال وعاد إلى سوريا مع بدء هجمات (داعش) على قرى وبلدات كردية» في سبتمبر (أيلول) 2014.
لكن هذه الصلة فتحت المجال لتكهنات متناقضة حول أدوار أردال في سوريا، منها أنه المسؤول عن تمكين «حزب الاتحاد الديمقراطي» منذ تشكيله عام 2003.
يفترض ناشطون كرد من بيئة «العمال» وخارجها، أن أردال يسقط غالباً في فخ التناقضات بشأن تقييم الوضع في سوريا. بعد خمسة أشهر من اندلاع الثورة السورية عام 2011 صرح أردال بأن:
"بشار الأسد ومن يدعموه فاقدون للشرعية".
حينذاك كان كرد سوريا في ذروة انتفاضتهم ضد الأسد، بعد اغتيال مشعل تمّو، المعارض السوري الكردي البارز، في أكتوبر (تشرين الأول) 2011. لم يكن لحزب العمال في سوريا وجود قوي على خريطة الثورة. فجأة، تصاعد ظهور أنصاره في الاحتجاجات مطلع عام 2012.
خلال الأشهر اللاحقة، انسحبت قوات نظام الأسد من قرى وبلدات كردية في شمال البلاد، لتحل محلها وحدات تابعة «حزب الاتحاد الديمقراطي» لتأسيس ما عُرف بـ«الكيانات الإدارية». وكان الحزب شقيقاً لقنديل في إطار «اتحاد مجتمعات كردستان».
يقول ضابط الاستخبارات الكردي، إن «تسليم الأسد المناطق الكردية لحزب PYD كان جزءاً من صفقة»؛ إذ خرج الأخير محيداً من الثورة السورية، وانعزل عن بقية الفصائل الكردية.
لقد كان الكرد في سوريا متعطشين للثورة. لم يكن الكردي قادراً في سوريا على فعل أشياء قد تبدو عادية في أي مكان آخر من العالم؛ ليس لديه قيد رسمي، لا يمكنه إٍقامة عرس بدبكة كردية دون موافقة الأمن، والمواليد الصغار لم يسمح بتسميتهم بأسماء كردية. الدائرة الحكومية تقوم بذلك نيابة عن الوالدين؛ فإن طفلاً كان يفترض أن يكون اسمه هوشنك – على سبيل المثال – سيصبح يعرب، أو أحمد، أو أي اسم عربي يخطر على بال الموظف.
في مقابلة صحافية قبل 5 سنوات، أعلن أردال أنه لم يدخل سوريا بعد الثورة، سوى في عام 2014 «لأسباب عائلية»، لكنها السنة نفسها التي شهدت تشكيل الذراع المسلحة «وحدات حماية الشعب»، التي أصبحت لاحقاً نواة قوات «قسد».
غموض أردال يرتبط فعلياً بأدواره الميدانية. إنه المسؤول عن هندسة القرارات العسكرية، وتشكيل الوحدات القتالية التابعة للحزب. يشاع أنه أسس مجموعات ظل مسلحة، من بينها «صقور حرية كردستان»، التي نفذت هجمات انتحارية بسيارات مفخخة في تركيا خلال العقدين الماضيين.
ينفي مصدر من قنديل هذه الصلة.
تقول «الصقور» إنها منشقة من حزب العمال، وهذا الأخير يتهم الحكومة التركية باستخدام الجماعة لتصوير الحزب منظمةً إرهابية. اللافت أن «الصقور» تأسست عام 2004، في الفترة نفسها التي شكَّل الحزب فيها فروعه الشقيقة في العراق وسوريا وإيران.
في أبريل 2016، وخلال مقابلة أُجريت في الجبل، سأل صحافي من «بي بي سي» إن كان جميل بايك سيطلب من «صقور حرية كردستان» التوقف عن تنفيذ الهجمات، بعد هجوم نفذته ذلك العام على حافلة تقل جنوداً أتراكاً، قُتل منهم 28 شخصاً.
جميل بايك... ظل جبل لا يُرى
جميل بايك أكثر غموضاً من أردال. إنه القائد المشترك لـ«اتحاد مجتمعات كردستان»، ومن تيار متشدد في قنديل. يعرفه كاميران قرداغي جيداً.
بعد هدنة بين قنديل وأنقرة عام 1993، نُصب كمين للقوات التركية سقط فيه 33 جندياً غير مسلحين من الأتراك، وفشلت الهدنة. يقول قرداغي إن «التيار المتشدد وراء الكمين. بايك أحد هؤلاء الذين دبروا المصيدة».
مع ذلك، رتب قرداغي اتصالاً عبر وسيط لتلافي انهيار الهدنة.
سمع بايك استياء قرداغي وتحذيراته، بالضرورة هو استياء جلال طالباني الذي تحمل إعلان الهدنة بنفسه في مؤتمر صحافي مع عبد الله أوجلان في 17 مارس 1993. يقول قرداغي: «التزم بايك الصمت».
في السنوات اللاحقة، اقترب بايك من إيران، أو أن الأخيرة اقتربت منه لدرجة عقد تحالف أثمر شبكة مصالح واسعة تؤخر الرجل اليوم عن الانسجام مع خطط السلام، كما يصف ضابط الاستخبارات الكردي.
يكاد بايك أن يكون ظلاً. ورغم أن جميع قادة حزب العمال معزولون في الجبال كأنهم ظلال، فإن بايك الذي لا يُرى بسهولة يمكنه الظهور بطريقة عادية، ربما في مقابلة صحافية في الجبل. إنه «دبلوماسي محنك، وقائد حذر يدير كل شيء تقريباً، درجة أن كثيرين يشبهونه بأدوار الجنرال الإيراني قاسم سليماني» وفق صحافيين التقوا بايك خلال العقدين الماضيين.
كمال جوماني زار الجبل عام 2015 وأجرى مقابلة مع بايك. قال لـ«الشرق الأوسط»، إنه واجه القيادي الكردي بشأن انخراطه في محور إيران.
يقول تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، إن الانتماء لطائفة بعينها ليس دليلاً كافياً لنفي أو تأكيد الصلات والانتماءات السياسية، لا سيما مع إيران و«محور المقاومة».
لدى ضابط الاستخبارات الكردي «تقدير موقف» مختلف عن أنشطة بايك، «بيده شبكة لوجيستيات الحزب وأفرعه وظلاله. يدير مصالح تجارية معقدة، من بينها السيطرة على خطوط متعددة الأطراف في المنطقة، لتهريب بضائع ومخدرات وأسلحة». يقول إن بايك «لهذه الأسباب لن يكون سهلاً عليه حل الحزب وإلقاء السلاح، رغم أنه في النهاية سينفذ أوامر أوجلان (...) لا خيار لديه».
بالطبع، ينفي حزب العمال ذلك. يقول زاكروس هيوا، المتحدث باسم قنديل إن هذه «الادعاءات لا تستند إلى أي أساس، وهي جزء من حرب نفسية تُشن ضد الحركة». ويزعم محمد أرسلان، الناشط الكردي أن «مؤسسة معينة في الحكومة التركية مهمتها صياغة هذه السردية عن قنديل».
في محركات البحث الرقمية لا يظهر الكثير عن بايك. كتابات متفرقة باللغتين التركية والكردية ربطت بايك بأنشطة إيران في المنطقة. الزعم الأساسي يدور حول قيام إيران بتقديم الحماية اللازمة، إلى درجة أنها رفضت طلباً تركياً بتسليمه عام 2002، مقابل السيطرة على الحزب الشقيق «بيجاك»، الفرع الإيراني لحزب العمال، ومنعه من القيام بأعمال عنف داخل إيران، والتأثير على قيادة قنديل في عدم اتخاذ قرارات استراتيجية تضر بمشروع إيران في إقليم كردستان، والمنطقة.
لقد اتفقت إيران وحزب «بيجاك» على هدنة في سبتمبر 2011. اشترط «الحرس الثوري» وقف هجمات الحزب داخل إيران والامتناع تماماً عن تجنيد الإيرانيين الكرد، مقابل أن «تلتزم» طهران بوقف العمليات العسكرية ضد معاقل الحزب، والتراجع عن تنفيذ إعدامات بحق ناشطين كرد. بنود الاتفاق غير معلنة، كما أن الوقائع تفيد بأن الهدنة لم تطبق فعلياً.
تفيد رواية يتبناها تيار تركي وآخر كردي بأن مراد قريلان لم يكن راضياً عن الهدنة، وأن وجود بايك كان مفيداً لإيران في كبح راديكالية «بيجاك» داخل إيران. يقول كمال جوماني، إن هذا «مستحيل أيضاً»؛ لأن «قنديل» تتخذ القرار بشكل جماعي، كما أن للخروج على إرادة أوجلان «عواقب وخيمة»، وفق مصادر. كثيرون ممن تحدثنا معهم اتفقوا على سردية تمنح الزعيم «أبو» المسجون في جزيرة إمرالي قدراً من «ألوهية شخصية».
بايك أهم مَن في قنديل. يقول عضو سابق في الحزب رفض الكشف عن هويته، إن «الرجل مركز اتصالات دولية. تلتقي عنده أطراف متضادة. يدير مع الأميركيين والإيرانيين والسوريين والعراقيين عمليات ومعادلات سياسية صعبة (...) كان يضبط إيقاع القامشلي وسنجار وأذربيجان الغربية في إيران، واتصالات مع بغداد، في وقت واحد». بهذا المعنى، لا يفضّل العضو السابق وصف بايك بأنه حليف يعمل لصالح إيران، بل يعمل معها، وأحياناً بمعزل عنها.
غالباً، تشكك المصادر الصحافية المستقلة في رواية الأعضاء السابقين والمنشقين عن الحزب، لكنها تتفق إلى حد كبير مع أن «بايك يقوم بأدوار محورية مركبة».
في البدء كانت إيران
الحال، أن إيران لم تكن في الصورة. «العمال الكردستاني» بدأ حزباً بعقيدة ماركسية يقاتل من أجل «كردستان الكبرى»، ثم قرر لاحقاً القتال في سبيل «الحكم الذاتي»، وبات يدافع عن «كونفدرالية ديمقراطية»، لكن الحركة دخلت المشهد من بوابة دمشق.
بعد انقلاب رئيس أركان الجيش التركي كنعان أفرين عام 1980، لجأ مقاتلو «العمال» إلى سوريا ولبنان. اندمجوا سريعاً في الجبهة المعادية لـ«الإمبريالية»، وعاش عبد الله أوجلان في شقة في المبنى الذي يسكن فيه القنصل العسكري التركي، كما ورد في شهادة نائب الرئيس السوري الراحل عبد الحليم خدام، خلال مقابلة مع محطة تلفزيون تركية عام 2011، وقال: «لن يخطر ببال أحد أنه يعيش هنا».
عام 1982، شارك مقاتلو الحزب في الحرب ضد إسرائيل إلى جانب فصائل فلسطينية في لبنان. قُتل 13 عنصراً كردياً بنيران القوات الإسرائيلية؛ ما أثار انتباه وإعجاب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي قرر بعد وقت قصير تنظيم لقاء تعارف بين أوجلان والإيرانيين. أسفر اللقاء عن انضمام حليف موثوق لطهران، وبدأ تحالف مضطرب وغامض استمر لعقود.
الجماعة الكردية التي اشتبكت مع دول وفصائل، انتهت بها معركة شنها «الإخوة الأعداء» في كردستان العراق مطلع التسعينات إلى قدر «الحرس الثوري»، وظل ملاصقاً لهم حتى «طوفان الأقصى». عام 1992، بعد عام من نجاح تمرد الكرد على نظام صدام حسين، رُسم «الخط 36» لفرض حظر جوي شمال العراق؛ لحماية الكرد من هجمات النظام العراقي. وبقي الكرد في الجبل يواجهون خلافاتهم.
اتفق الحزبان الكرديان، «الاتحاد الوطني» بزعامة جلال طالباني، و«الحزب الديمقراطي» بزعامة مسعود بارزاني، على توحيد قواتهما «البيشمركة» لخوض معركة ضد «العمال» في قنديل.
استنشق الإيرانيون رائحة صفقة. سرعان ما بادروا إلى احتضان المنكسرين في المعركة. في البداية، قدم «الحرس الثوري» العلاج والغذاء والأدوية، ثم المال ومعسكرات التدريب. ما أن استعادوا عافيتهم، يقول قرداغي، أعادتهم إيران عبر طريق يلتف حول المثلث التركي - العراقي - الإيراني، وتسللوا إلى حيث أنزلهم طالباني في قنديل.
لم يكن الدعم الإيراني مجانياً؛ إذ كانت طهران تضغط على قنديل لعدم قيام الحزب الشقيق «بيجاك» بأي هجمات داخل البلاد.
هل أخطأ طالباني باختيار «زَلى» وقدّم لإيران هدية «العمال»؟
القلعة التي اختارها طالباني أول مرة لمقاتلي «العمال»، واحدة من 11 قلعة بناها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خلال الثمانينات في كردستان. تحولت اليوم سجناً يحمل اسم «سوسة»، ويُودَع فيه مدانون بأحكام جنائية مختلفة من عموم العراق.
حين يجري الكردي حساباته، تضيق عليه النتائج وقد لا تظهر النهايات دقيقةً. لذا؛ لا يسأل الكرد: ماذا لو لم يختر طالباني لحزب العمال المصير الإيراني بالصدفة المحضة، فلا مفر من أحكام الجغرافيا؛ إذ تحكم التاريخ والسياسة والمصائر. كما أن إيران ستعرف طريقها إلى أقل الفرص.
لكن الحركات الكردية استثمرت في الفخ نفسه الذي وقعت فيه. يعتقد قادر أنها حاولت استغلال الخلافات بين دول الجوار، ونجحت لفترة من الزمن، قبل أن تتحول في النهاية إلى الضحية. «لقد حاول حافظ الأسد أن يستغل ورقة الحزب ضد تركيا، لكنه خضع لتهديدات أنقرة وطرد أوجلان عام 1998؛ ما أفضى لاحقاً إلى اعتقاله في كينيا، كما حاولت إيران استخدام الحزب بطرق غير مباشرة؛ لأنها لا تود الدخول في صراع مكشوف مع تركيا»، يضيف المؤرخ الكردي.
«محور المقاومة»... العلاقة الغامضة
علاقة «العمال» بإيران تحكمها ظلال وأسرار، وشبكة مترامية من الأشخاص والمواقع والمصالح. في السنوات القليلة الماضية، تداولت مواقع تركية وكردية، مثل «داركا مازى» وتعني بالعربية «طريق الأمل»، مزاعم عن اتفاق بين إيران وحزب العمال أُبرم عام 1986. ثمة شكوك حول هذه التقارير بسبب انعدام المصادر المستقلة التي تستند إليها، لكنها روّجت لجملة بنود، منها أن:
"حزب العمال لا يمكنه القيام بعمليات عسكرية في المناطق الحدودية أو القيام بأي نشاط سياسي في مجتمع شرق كرستان (إيران) ، كما يُمنع إقامة علاقات مع أحزاب المعارضة للنظام الإيراني». ويلتزم حزب العمال، وفق الاتفاق المزعوم، بإبلاغ إيران «بكل المعلومات التي يحصل عليها ».
تقول مصادر صحافية مستقلة لـ«الشرق الأوسط» إن تفاهمات مرحلية على نقاط معينة مفيدة للطرفين هي من أطّرت العلاقة بينهما. إذ ترى إيران حزب العمال مصدر إزعاج بصفته حركة قومية مسلحة وعنصر استقطاب للمعارضين الكرد المتمردين على نظامها، لكنه أيضاً «حائط صدٍّ للأطماع التركية في السيطرة على كامل المثلث التركي - الإيراني - العراقي».
يضع الباحث الكردي العلاقة بين إيران و«العمال» في إطار ما سُمّي «محور المقاومة»، لكنه يجزم بأن الحزب لم يلتزم دائماً مع إيران، ولم يتحوّل أداةً بيدها؛ ذلك لأن الحزب «لديه إمكاناته المالية ويشتري الأسلحة من أرصدته الخاصة»، ولم يعتمد، مثل وكلاء إيران، على مساعدتها.
في عامي 2010 و2011، تصاعدت عمليات فرع الحزب «بيجاك» ضد إيران، وردّت إيران بقوة. وخلال هذه الفترة، اندلعت الحرب السورية.
أواخر عام 2015، انتقل حزب «العمال» إلى مكانة أكثر أهمية في «محور المقاومة» مع اندلاع المعارك ضد تنظيم «داعش». يقول قيادي شيعي في فصيل مسلح إن الإيرانيين نظروا إلى الكرد بأنهم أكثر التزاماً وتنظيماً وشراسة من غيرهم، وكانوا يضعونهم في مرتبة تكاد تقترب من أهمية «حزب الله» اللبناني. يضيف: «خاض مقاتلو (العمال) معارك شرسة لتحرير سنجار من (داعش)، بدرجة أنهم أثاروا إعجاب قوات التحالف الدولي التي كانت بدأت تنسق معهم».
مع اتساع نشاط «داعش» في العراق، نسّق الجنرال قاسم سليماني، القائد في «الحرس الثوري»، جهود الحزب ضمن تحالف ميليشيات يمتد من «الحشد الشعبي» في العراق إلى «حزب الله» في لبنان. تمركز المقاتلون الكرد في مواقع استراتيجية على طول طريق الإمدادات من إيران وصولاً إلى البقاع. يعرف كرد «العمال» هذا الطريق أكثر من غيرهم، شبراً شبراً.
في إطار هذا التشابك الميداني بين الإيرانيين و«العماليين»، يتحدث ضابط الاستخبارات الكردي عن «اشتباك مصالح» بين الطرفين. «لقد رسمت العلاقة التي توطدت أكثر مع معارك (داعش)، طريقين استراتيجيين يستخدمهما الطرفان، كل وفق مصالحه، وأحياناً في إطار مصلحة مشتركة واحدة فرضها (محور المقاومة)».
يقول الضابط: «يمتد الطريق الأول الأفقي، من قنديل والسليمانية غرباً نحو سنجار (شمال الموصل)، وحتى أراضي الشمال السورية، أما الآخر العمودي فيشق طريقه صعوداً من قنديل نحو أورمية، سلماس، وصولاً إلى مرتفعات قطور عند الحدود التركية المحاذية لمناطق شرق الأناضول».
لا يمكن التحقق من مزاعم «الأنشطة المشتركة» لحزب العمال وإيران على طول الطريق العمودي في كردستان الشرقية، لكن تقارير نشرها «آراز نيوز» (وهو موقع إيراني معارض يدعم انفصال «أذربيجان الجنوبية») وموقع «باس نيوز» المقرب من الحزب الديمقراطي الكردستاني، أشارت إلى أن هذه شبكة تهريب على صلة بحزب العمال تنشط على طول هذا الطريق.
وفي تلك التقارير، برز اسما شخصين جرى ربطهما بقادة في حزب العمال وبالأنشطة المزعومة في الطريق الشمالي؛ هما «غاغارين سيمكو» و«ناجي شريفي زين دشتي». ظهر الرجلان سوياً في لقطات متداولة في منصة «إكس»، وقالت التقارير إن صلة عشائرية تربطهما.
زعمت التقارير أيضاً أن سيمكو وزين دشتي متورطان بعمليات خطف معارضين لإيران من تركيا، إلى جانب تهريب مخدرات وأسلحة. مع ذلك، لم تدعم مصادر مستقلة ربط هذه الأنشطة بهذين الاسمين، دون أن تستبعد حدوثها بالفعل.
يقول كمال جوماني: «حزب العمال من الناحية الآيديولوجية يعارض الأنشطة الإجرامية، لكنه يقوم بتحركات غير رسمية بهدف تأمين تمويل غير رسمي، ورغم أن هذه العمليات ليست شفافة، فإنه من الصعب مساواتها بالجريمة المنظمة».
لكن الطريق الأفقي بين قنديل وسنجار وسوريا أكثر سخونة. تقول مصادر صحافية مستقلة إن حزب العمال جنى ثمار مشاركته الحاسمة في تحرير سنجار، ومن تحالفه مع بيئة إيزيدية، شكَّل وحدات قتالية للأمن المحلي عُرفت باسم «قوات حماية سنجار»، التي تعدّ لسنوات إلى جانب «قوات الحشد الشعبي» واحدة من أهم أسباب فشل تطبيع الأوضاع في البلدة.
تفيد المصادر، التي تستند إلى شهادات ومصادر محلية وأمنية، بأن فصيلاً شيعياً متنفذاً في تحالف «الإطار التنسيقي» في بغداد، وله ذراع مسلحة، قام في الأشهر الأولى من حرب غزة الأخيرة بنقل صواريخ إلى سنجار، وسلّمها إلى حزب العمال الكردستاني، يعتقد أنه نقلها بدوره إلى مكان آخر، في سوريا ومنها إلى «حزب الله» و«حماس».
يقول ضابط الاستخبارات الكردي أيضاً إن «الحرس الثوري» الإيراني أشرف على عملية النقل، وشملت دفعات متتالية، بعد أن أشرك فيها وكلاء وحلفاء من قوى شيعية وكردية داخل العراق.
العقائد هي من تحرك «العمال». لقد تماهى الحزب المسلح، كما يقول الباحث جبار قادر، مع ما يُسمى «محور المقاومة» عن «قناعة آيديولوجية»، خصوصاً النضال ضد «الإمبريالية والرأسمالية»، لكنه في الوقت نفسه «براغماتي إلى أبعد الحدود؛ إذ إنه تعاون مع الأميركيين في سوريا ضد (داعش) ولم يجد في ذلك غضاضة، أبداً».
يصف الصحافي كمال جوماني العلاقة بين إيران وحزب العمال بـ«الغامضة والبراغماتية». يقول إن إيران «تتحمل وجود قنديل إلى حدٍّ ما، عندما يخدم ذلك مواجهة النفوذ التركي؛ لأنها تخشى أن يحل متطرفون محل (العمال) في قنديل. مع ذلك، لا تزال طهران شديدة الشكوك تجاه الطموحات الكردية. أؤكد أن العلاقة بين الحزب وإيران ليست تحالفاً ولا عداءً، بل تعايش استراتيجي تشكله التنافسات الإقليمية ومنطق البقاء».
الآن، ماذا حل بتحالف الكرد مع إيران بعد فرار الأسد واغتيال حسن نصر الله؟ يقول محمد أرسلان، وهو ناشط كردي مقرب من حزب العمال، إنها لم تكن كما السابق، «لكننا لسنا على قطيعة»، ويصرّ زاكروس هيوا، المتحدث باسم الحزب، على أن العلاقة مع إيران «لم تكن تنسيقاً»، حتى إنهم لم يتحدثوا معهم حول قرار حل الحزب ونزع السلاح.
لا يبدو الأمر كذلك من وجهة نظر دنيز جانر، وهي باحثة تركية مقربة من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم.
المشهد الأخير: كم تغيّر أوجلان
صُدم الجميع حين أعلن «العمال» عقد مؤتمره الثاني عشر يومي 5 و7 مايو (أيار) 2025. لم يكن بإمكان عدد محدود من أعضاء الحزب أن يجتمعوا علناً ويتباحثوا في أمور روتينية، لا أن يقرروا الحل ونزع السلاح.
فجأة، تمكن المئات من القادة والكوادر من عقد اجتماع تاريخي وعلني. يقول محمد أرسلان إن أوجلان أرسل تسجيلاً، قال فيه في سياق رسالة مطولة: «هذه العملية ستستمر حتى تتحقق الديمقراطية في تركيا».
كيف وصل أوجلان إلى هنا، بعد 40 عاماً من التمرّد؟ جبار قادر كان قد التقاه منتصف التسعينات في دمشق. يقول: «حينها كان في أوج نشاطه القيادي، يمسك بكل الخيوط الحزبية والعسكرية». يرى اليوم أن «أكثر من ربع قرن في السجن أجبر أوجلان على مراجعة أفكاره، فقد أدرك أن أنماط حزبه تنتمي إلى الحرب الباردة، كما قال في رسالته الأخيرة».
لكن الباحثة التركية دنيز جانر ترصد تحولات الحزب منذ تأسيسه على نحو مختلف.
شوان طه، وهو أكاديمي ونائب كردي سابق، خدم في البرلمان الاتحادي بين عامي 2006 و2010، يعتقد أن «أوجلان تغير؛ لأنه شهد عصر الحروب التكنولوجية، وتأكد أن أسلحة قنديل لا تمتلك أي فرصة في المنافسة، كما تأثر من دون شك بما شاهده في عملية البيجر في ضاحية بيروت، والطريقة التي اغتيل بها حسن نصر الله».
يؤمن شوان طه بأن «قرار حل الحزب سيكشف لاحقاً كيف سيسهم في إنقاذ الكرد من الفناء إلى الأبد».
ظروف أخرى لعبت دوراً في وصول أوجلان إلى إنهاء الكفاح المسلّح.
وفق رواية قدمتها مصادر مستقلة، كان أوجلان يشاهد البث التلفزيوني التركي، في 22 أكتوبر 2024، حين سمع باهشلي يطلق مبادرته مع حزب العمال. باهشلي نفسه الذي يتموضع منذ عقود في قلب الدولة العميقة، ولم يكن ودوداً مع القضية الكردية.
من وجهة نظر دنيز جانر، فإن «حساسية حزب الحركة القومية (الذي يتزعمه باهشلي) تجاه حل المشكلة الكردية أكثر أهمية من موقف حزب العدالة والتنمية. بشكل واضح، فإن حل هذه المسألة في تركيا يعتمد بشكل كبير على الموقف القومي».
يبدو أن أوجلان ليس وحده من يتغير، أو يضطر إلى ذلك. في الجهة المقابلة، يبدو أن الرئيس التركي بأمس الحاجة إلى ديناميكية مختلفة تتيح تغيير الدستور بشكل يضمن ولاية رئاسية ثالثة بتحالفات أكثر تماسكاً وحركية. هذا لن يكون سهلاً دون صفقة كبرى متعددة الشركاء، مع القوميين الذين يريدون تغييرات ثقافية واقتصادية، والكرد الباحثين عن وجود ودور سياسي، الذين يميلون أكثر لأحزاب معارضة في تركيا.
تخالف دنيز جانر هذه الفرضية، «إردوغان لا يريد نصراً للتغلب على أزمات داخلية؛ مثل اعتقال إمام أكرم أوغلو، والتضخم، والانتخابات المبكرة». تضيف أن «تركيا وضعت ملف (العمال) على الطاولة لكي تتكيف مع تغييرات كبرى، أهمها سقوط نظام البعث في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان وحتى العراق، بشكل كبير».
لكن دوائر القرار في تركيا، بفعل التطورات السياسية والعسكرية في الشرق الأدنى، «توصلت إلى ضرورة تغيير سياستها تجاه القضية الكردية على مستوى تركيا والمنطقة. لذا؛ سعت إلى استباق الأحداث عبر نهج جديد وشامل»، وفق جبار قادر.
إنزال راية قنديل
قدم العماليون أكثر من تأويل لمسألة نزع السلاح. تغيرت أقوالهم من نزع السلاح إلى وقف الحرب والاحتفاظ به، مع مناورات بموقف متشدد من أحزاب شقيقة بشأن مستقبل سلاحها، مثل «بيجاك» في إيران، لكن الحرية الأكبر مُنحت لـ«قسد» في سوريا، التي يراها شوان طه «الرابح الأكبر»؛ لأنها «الجنين الذي نجا بعد التضحية بالأم قنديل».
منذ البداية، كان جبار قادر يقول إن قيادات قنديل ستحاول أن تطيل مرحلة تسليم السلاح وتسريح المقاتلين، إلى حين التأكد من قيام الحكومة التركية بخطوات عملية في مجال الاعتراف بالحقوق الثقافية للكرد.
لقد اشترط أوجلان، وفق محمد أرسلان، تغيير مواد في الدستور التركي تتعلق بالحقوق الثقافية واللغوية، وتشريع قوانين في البرلمان تؤمّن انتقال أعضاء الحزب إلى العمل السياسي الحر في تركيا، وقبل ذلك إطلاق سراح أوجلان. كاد أرسلان أن يجزم بأن «أي مقاتل في الحزب لن يسلم سلاحه دون هذه الشروط». وبعض قادة قنديل سمعوا من أوجلان أن «إردوغان وافق على كل هذا».
هذه توقعات تستند إلى سقف كردي مبالَغ فيه، كما تصفها دنيز جانر: «لأن تلبية شروط من هذا النوع مستبعدة، وفي حال تحقق سلام فعلي فإن التنفيذ قد يستغرق سنوات».
ستتحرك العملية خلال أسابيع أو أشهر، لكن «أقصى ما سيحدث أن أوجلان سينقل إلى منزل لائق في جزيرة إمرالي، تحت حراسة مشددة. يمكنه إجراء اتصالات حرة مع جماعته لكن تحت رقابة الدولة»، وفق مصادر صحافية مستقلة، والتي لا تستبعد أيضاً «مفاجآت».
لا يقرّ زاكروس هيوا بوجود اتفاق مكتوب أو شفهي بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية. يقول إن «وقف إطلاق النار، وحل الحزب، وإنهاء الكفاح المسلح، خطوات أحادية الجانب تعبر عن حسن النية لإيجاد حل ديمقراطي للقضية الكردية».
قد لا يعكس تضارب المواقف العمالية وتغيرها مخاضاً داخل الحزب الذي اعتاد في المجمل طاعة أوجلان، بل قد يكون وراء ذلك «قطعة من الأحجية جرى إخفاؤها في مكان ما». تنقل مصادر صحافية، فهمت من قيادات في الحزب أن أوجلان كتب رسالة من 300 صفحة وأرسل 30 صفحة فقط إلى المؤتمر الثاني عشر.
مصير الجبل والسلاح
سألنا المتحدث باسم «العمال» عما إذا كان بإمكانه تخيل مصير جبال قنديل بعد رحيل المقاتلين وتسليم سلاحهم، لو حصل ذلك بالفعل. يقول زاكروس هيوا: «يمكن أن تلعب المرتفعات التاريخية دوراً حاسماً ليس فقط في مستقبل الشعب الكردي، بل أيضاً في مستقبل شعوب الشرق الأوسط».
أفهمت مصادر «الشرق الأوسط» بأن معضلة إيرانية تبرز في ملف قنديل. لقد اجتمع السفير التركي في بغداد، أنيل بورا إينان، مع مسؤولين عراقيين لبحث المسألة، وسمع هناك أن «إيران تحتاج إلى وقت وتطمينات».
يقول جبار قادر إن «دول المنطقة والتحالف الدولي يتخوّفون من تحول هذه الجبال إلى معاقل للمتطرفين إذا انسحب منها (العمال)»، لكن إيران على وجه الخصوص «تحاول منع تمركز معارضين لها في هذه المواقع».
لا يبدو أن أنقرة تفضّل في هذا الوقت تحديداً ما يخرب المسار المتحرك، وتموضع إيران فيها لم يعد جوهرياً في المفاوضات بين أوجلان وإردوغان. ترصد دنيز جانر نحو 30 في المائة من قنديل ضمن الأراضي الإيرانية، يتمركز فيها زعماء «العمال». ولحل هذا الجزء المعقد من العملية، ترجح جانر «تدخلاً عسكرياً داخل إيران بالتعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يمكننا التنبؤ بنتائجه».
أما السلاح والمقاتلون، فإن فرضيات مختلفة تطرحها الأطراف المعنية حول طرق تصفيتهم، لكن دون تأكيدات. تقول مصادر مستقلة إن العملية ستكون متعددة وواسعة؛ نظراً لسعة منظمة حزب العمال، وقد تشمل، خطوات تدريجية لتسليم السلاح تتسارع مع ازدياد الثقة المتبادلة. وعلى مستوى الأفراد، دمجهم في بلدانهم الأربعة: في تركيا، العراق، سوريا، وإيران، أو نقلهم إلى دولة أوروبية ستوافق على استضافتهم. وبقدر ما يتعلق الأمر بتركيا، فإن قائمة تضم نحو 50 قيادياً في الحزب لن يسمح لهم بالعودة، ولن تشملهم اللوائح المنتظرة لإعادة الاندماج.
واحدة من الأفكار التي نوقشت خلال شهر أبريل أن «يدمج الآلاف من مقاتلي الحزب مع قوات البيشمركة التابعة لحزب بارزاني»، وهو ما نفته مصادر من أربيل، التي قالت إن «أعداداً قليلة جداً من أبناء كردستان العراق يمكنهم الاندماج». وقد تذهب الأطراف المعنية بالعملية، وفق تفاهمات بين أربيل وأنقرة وبغداد، إلى أن يسكن المسلحون منزوعي السلاح في قرى الجبل، بسلام.
«ربما هناك خطة محكمة ومدروسة لا يعلم بها سوى عدد محدود من أصحاب القرار. لكن سأكون صريحة: قد لا يكون حزب العمال الكردستاني موجوداً غداً»، تقول دنيز جانر. وكثيرون يرون إن إبراهيم كالن، رئيس جهاز الاستخبارات التركية، يتحكم بدقائق العملية.
لا يغفل كثيرون دور حزب «مساواة وديمقراطية الشعوب» في تأمين قناة تفاوض تاريخية بين أوجلان والقوميين الأتراك. قد يجني هذا الحزب أرباحاً من هذه العملية بإدماج جمهور وعناصر «العمال» في قاعدته الانتخابية، في ظل ما يشاع عن «طبخة» تحالف جديد في تركيا قد تبدأ بالزعيم الكردي صلاح الدين ديمرتاش، المسجون بتهم إرهابية»؛ ما تفسره المصادر بأن «العملية الجارية، رغم صعوبتها، تنطلق من التضحية بقنديل، ورسم خريطة كيانات كردية صديقة لتركيا، ولاعبين في الشرق الأوسط».
طوال هذه الحكاية الممتدة عبر 4 عقود، كان أوجلان بدايتها ونهايتها. الرجل الذي وزَّع منشورات سرية في شوارع أنقرة وإسطنبول منتصف السبعينات، ولمعت في رأسه دولة «كردستان الكبرى»، يكتب المشهد الأخير لجبال قنديل.
خلال هذا التحقيق كان السؤال عما سوف يكسبه «العمال» من عملية السلام يقود دائماً إلى أن: «الكردي تعب من القتال»، لكن هذا لم يكن يحدث لولا أن أوجلان قرر إراحة الجبل من سلاحه، والتحول إلى طور جديد من البراغماتية التي طالما كان يبرع فيها. أخيراً، وصلتنا رسالة من زاكروس هيوا، المتحدث باسم الحزب. لم يكن متفائلاً بأن «تركيا ستغير عقليتها مع الكرد، كما أنها لم تفعل شيئاً يوازي مبادرة أوجلان». كانت نبرة هيوا تناسب التاريخ المعاد عن الهدن والمصالحات الفاشلة. مع ذلك يتمنى كاميران قرداغي أن يعود قريباً إلى القمم السبعة التي زارها قبل 50 عاماً ليراها منتجعاً سياحياً آمناً، بينما يخشى عماليون ألا يسمعوا من أوجلان كلمة أخرى أو نداءً، وهو على جزيرة في مرمرة؛ البحر الذي حفظ أسرار الأتراك وأغانيهم الحزينة.
(الشرق الأوسط)