في السياسة كما في الحياة، عندما يقوم شيء على شيء واحد لا يعمر طويلا. تحتاج اجراءات البنك المركزي الى أن تسند بسياسات اقتصادية حقيقة وإستراتيجية.
تعتمد على أكثر من عامل إستقرار وليس فقط على الدعم الفني والعصا الخارجية. بعض السياسات قد تتعارض مع العصا الخارجية لكنها ستكون منسجمة مع مصالح اليمنيين.
من الواضح حتى الآن، أن إنخفاض أسعار السلع الأساسية، لم يواكب ولو حد معقول من نسبة إستعادة العملة الوطنية لقيمتها. وسقطت مقولة أننا في اقتصاد حر وتنافس التجار سيؤدي حتما الى انحفاض أسعار السلع.
اقتصادنا متواضع وقائم على هيمنة عدد محدود من الموردين والمصنعين للمواد الاستهلاكية الأساسية. أي أن هؤلاء يستطيعون مسك خيوط الأسعار بيدهم والتحكم بها بنفس طريقة المضاربين.
وطبعا تبدو كل اجراءات الضبط، حماسة لحظية. مثلا لم نر أو نسمع حتى الآن عن محاكمة المضاربين الكبار أو حتى الكشف للاعلام عن آليات عملهم، ونفس الأمر سيجري على التجار الكبار. نحن في بلد القانون لا ينفذ سوى على المهزوم عندما يجرد من أدوات القوة.
وفي ظل التوازنات القائمة يصبح الحديث عن تفعيل القوانين مجرد حديث في الهواء. ما يحكمنا هو نظام قائم على العلاقات الطبقية والاجتماعية في المستوى الأدنى وعلى توازنات القوى في المستوى المتوسط ثم على التدخلات في المستوى الأعلى لهذا مثلا رأينا قبل اجراءات البنك المركزي كيف جرى الإفراج عن هشام شرف والزايدي دون تقديم حتى مجرد تفسيرات تقول كيف تم ذلك.
إذن، بالعودة إلى هذا الواقع، ولكون اجراءات البنك المركزي والتحسن في سعر العملة مكسب كبير، وبالنظر الى أن نتائج هذا المكسب لا تزال محدودة، فإن الخشية من الانهيار الشامل لا تزال قائمة.
الخطر أنتقل فقط من المستوى الاقتصادي المتعلق بافلاس مؤسسات الدولة إلى المستوى الاجتماعي. يفترض أن أكبر مستفيد من تعافي الريال هم الموظفين الحكوميين الذين ستستعيد رواتبهم جزء كبير من قيمتها المفقودة.
لكن في ظل بقاء أسعار السلع على حالها وعدم وجود ضمانات باستمرار وانتظام دفع الرواتب، فوجود هذه الاجراءات مثل عدمها.
ما نحتاجه هو ذلك النوع من السياسة التي تشبه الرياضيات العليا. سياسة تآخذ في الاعتبار كل المشاكل القائمة، لكن عند مقاربة الحلول، تقفز على التفاصيل. مثلا من الجيد أن الحكومة فطنت أخيرا إلى أهمية تحديد قائمة السلع الأساسية والاستغناء عن السلع الكمالية التي ظلت تستنزف العملة الصعبة وكأننا في وضع مستقر. لكن في ظل النتائج الحالية هذا الإجراء لم يعد كافيا.
يفترض بالدولة أن تكسر دائرة الاحتكار ضمن قائمة السلع الاساسية على الاقل، وذلك من خلال تولي عملية الاستيراد وبيعها للمواطنين بسعر التكلفة.
لو حدث هذا، سينخفض سعر القمح إلى النصف وسيتجاوز حتى مقدار تعافي العملة، خاصة وأن أسعار القمح منخفضة عالميا. ومن الممكن البحث عن أسعار معقولة لباقي السلع الأساسية مع ضمان جودتها، وهنا سيضطر التجار المحتكرين لخفض أسعارهم مكرهين.
المسألة الثانية، وضع سياسات من نفس النوع فيما يتعلق بالخضروات والمنتجات الزراعية. من خلال الاستفادة من الطفرة التي نتابعها على مواقع التواصل الاجتماعي في مجال الآلات الزراعية وفي مجال البذور المحسنة، ويكفي ان تقوم الدولة بتوفيرها وبيعها للمزارع بسعر التكلفة.
سياسات من هذا النوع، في مجالات مختلفة، من الممكن أن تصنع فارقا على شكل تحسن في معيشة الناس وبالذات الفئات الفقيرة، وتضع أساس متين لتعافي اقتصادي طويل المدى.
من شأن هذه السياسات أيضا أن تلامس حنين غائر لدى القطاعات الشعبية، خاصة ونحن نتكلم عن مناطق سيطرة الحكومة والتي هي في معظمها محافظات جنوبية تشعر بحنين الى الماضي دون أن تستطيع أن تحدد ما الذي تحن اليه، بينما هي في الحقيقة تحن إلى دولة الرعاية وإلى الأمان الاقتصادي والاجتماعي وليس إلى الأوهام التي يعبر عنها بنزعات عنصرية.
تحسن قيمة العملة الوطنية، فتح باب الأمل بأنه من الممكن تجاوز الواقع البائس. والمطلوب الآن هو تعزيز هذا الأمل وتجسيده على شكل تحسن حقيقي في حياة الناس.
وأتصور أن السياسات الفوقية المدروسة والجادة لا تزال هي الخيار الوحيد الممكن في ظل التعقيدات الماثلة.
(من صفحة الكاتب في فيس بوك)