14 أغسطس 2025
13 أغسطس 2025


كتب الصديق الدكتور معن دماج تغريدة سريعة نصها: "أصادف أحيانا فيديوهات للشهيد علي عنتر.. ولا أفهم حقيقة من أين ترسخ الانطباع أنه على كونه مناضل كبير كان قليل المعرفة وغير مثقف... الحقيقة أنه يفهم أكثر من أغلب سياسيي اليوم ويفوقهم قدرة على الكلام بل والخطابة!.

انتهى منشور معن دماج، وبالمصادفة كنت أفكر خلال الأسابيع الماضية في الأمر نفسه، لأن مقاطع من خطابات مسجلة للراحل علي عنتر ظهرت لي بشكل متكرر كما هي عادة خوارزميات الإنترنت عندما تبحث عن شيء أو تمنحه المزيد من الوقت، تظهر لك مقاطع إضافية لنفس الموضوع أو المحتوى.

وهكذا شاهدت العديد من المقاطع الموثقة والمصورة لخطابات الرجل الصريح القائد السياسي الاشتراكي الواضح علي عنتر، أو حسب الاسم الكامل علي أحمد ناصر عنتر. ووجدته بالفعل صاحب خطابات ورؤى تنطلق من موقف سياسي متقدم قياسًا بالمنطق المتخلف والتائه الذي يحكم خطابات قيادات اليوم التي عادت إلى القروية والجهوية والتبعية والارتباط بقوى التخلف والرجعية التي ثار ضدها علي عنتر ورفاقه.

وللوقوف على طريقة تفكير علي عنتر لا بد من إعادة قراءة ما يمثله من عدة زوايا وأبعاد، وفي الواقع أرى أن الانطباع الذي تساءل عنه الصديق معن له ما يبرره، فنحن في الشمال وبالتحديد الأجيال التي لم تعاصر فترة علي عنتر ورفاقه، لم نسمع عن شخصيته إلا من أصدقائنا وزملائنا الذين قدموا إلى صنعاء من عدن ومحافظات الجنوب بعد الوحدة. فكانوا عادة ينقلون لنا طرائف ومواقف مضحكة صورت شخصية علي عنتر بصورة فكاهية تدل على عفويته وتلقائيته.

ومن أشهر تلك المواقف أنه كان في تفتيش على أحد السجون وبدأ يسأل عن سبب سجن كل شخص من النزلاء، ولما وصل إلى سجين وسأل عن سبب حبسه، قالوا له: "إن هذا مسجون لأنه تلفظ بشتيمة ضدك يا رفيق". سألهم عنتر: "وبماذا شتمني؟". فلما أخبروه بما قاله السجين، وجه علي عنتر شتيمة مماثلة لتلك التي نقلوها له والذي أودع بسببها ذلك الشخص في السجن، وعقب رده للشتيمة بمثلها أمام الحراس أمر علي عنتر بالإفراج عن السجين.

مواقف أخرى كثيرة كهذه كانت تقدم علي عنتر بشكل ظريف وعفوي، كرجل بسيط وقريب من الناس لكنها طمست صورته كقائد سياسي محنك.

تكشف خطاباته القليلة الموثقة عن عقل سياسي رصين يعرف التحديات وخطورة الأمراض الجهوية والرجعية التي تفشت الآن وانتشرت وأصبحت مثار فخر لدى كثيرين ممن يحاولون إرضاء المزاج الشعبوي، بينما كان علي عنتر وزمنه يعتبر المناطقية والانعزالية أمراضًا سياسية وعلامات تخلف في الوعي وخيانة للثورة، وهذا التباين الحاد بين الصورة الفكاهية والعمق السياسي هو ما يحفز على البحث عما خلف الصورة النمطية لعلي عنتر القائد السياسي الذي لا تخلو خطاباته من روح مقاتل شرس وصادق ومخلص لمشروع اليمن الديمقراطي الكبير والموحد القائم على العدالة والأخذ بيد أبناء الشعب نحو مستقبل أفضل يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات.

أعتقد أن تأمل خطابات علي عنتر ومنطقها ليس استغراقا في ملامح شخصية الرجل لذاتها ولا تقديسا لمرحلته ولمن عاصروه من قادة طليعيين، وأن استعادة هذه الشخصية العظيمة دافعها ما نحن فيه من انتكاس شامل لا ترى فيه من يستنكر الخطأ ويرفض مهادنة المنطق الأعوج.

علي عنتر من مواليد عام 1937 في قرية بسيطة بالضالع، دفعته قسوة الحياة للهجرة إلى الكويت عام 1958 وعاد من تلك الغربة بعد سنتين وكان عاملا بسيطا مثل غيره من اليمنيين البسطاء في الخليج، لكنه أثناء اغترابه التحق بحركة القوميين العرب، فكانت بداية رحلته مع السياسة والفكر والتطلع للتغيير.

وأكثر ما يوصف به علي عنتر من طرف رفاقه ومعاصريه انه اكتسب ثقافته من الحياة وفهم السياسة من ممارستها وليس من قراءة الكتب فكان أحد أعضاء الخلايا السرية للعمال التي واجهت الاحتلال الإنجليزي بالكفاح المباشر وليس بالتنظير.

يشعرك علي عنتر في خطاباته عندما يتحدث عن الاستعمار والرجعية أنه مؤمن بما يقول ومقتنع وناجح في توطين كل فكرة في مخيلته ومنحها الطاقة المعنوية والحاجة المحلية الماسة لتطبيقها على أرض الواقع، ولم يكن في نبرة حديثه ما يوحي أنه يثرثر بأفكار مستوردة أو غريبة عن واقع المجتمع وحاجته للتحول الثوري آنذاك ونحن نتحدث عن الستينيات وما بعدها من القرن الماضي.

فعندما كان يتكلم عن طبقة العمال والكادحين هو منهم وعندما يتحدث عن الكفاح والنضال ضد الاستعمار فهو مناضل حقيقي في الميدان، وله خطاب شهير يوضح فيه سهولة كشف النخب التي "تحن للماضي" ولثقافة السلاطين والمستعمرين. فتشوا عن خطاباته لأنها موجودة وعلى بساطتها إلا أنها تمتلك من الوضوح ما يصيب الهدف بسهولة ويجعلنا ندرك كم أننا اليوم أمام سياسيين مراوغين ومنافقين لا يجرؤون على الإشارة إلى مكمن الخطأ بصراحة كما كان علي عنتر يفعل.

لم تكن قضية الوحدة اليمنية بالنسبة له صفقة سياسية أو تكتيكًا مرحليًا، بل يقنعك أنها عقيدة راسخة وإيمان بمصير مشترك، وله عبارة شهيرة يقول فيها بأن "الرصاص الذي أطلق على صدور الإنجليز في 14 أكتوبر... استلموها الثوار من مستودعات صنعاء"، فكان يرى عن يقين في ثورتي سبتمبر وأكتوبر فصلين في كتاب نضال شعب واحد، وإلى جانب إيمانه بالوحدة كان يقرن الحديث عنها ببناء الدولة الحديثة التي لا بد منها للقضاء على الماضي الأسود والأفكار المتخلفة والتراث الخبيث حسب تعبيراته، ويقصد تراث المستعمر وما خلفه في الوعي من تبعية.

التراجيدي والمحزن في حياة علي عنتر أن مشروعه الذي آمن به وهو مشروع الحزب الاشتراكي اليمني اصطدم بالواقع في الجنوب وصراع الأخوة الاعداء في قيادة الحزب الذي كان عنتر يؤمن أنه يجب أن يكون فوق كل الولاءات، إلا أن الصراع داخل الحزب نفسه قسم كيانه ما بين "الطغمة" و"الزمرة" وللقسمين خلفيات مناطقية وقبلية تتستر خلف الأيديولوجيا وهي بريئة منها، وحدث ما حدث في 13 يناير 1986 وأصبح علي عنتر وآخرين في عداد الشهداء وغاب معهم المشروع الذي ناضلوا من أجله وما يزال في ذروة الغياب حتى اليوم.

بعيدا عن النهاية المأساوية لعلي عنتر أرى أنها لا تقلل من قيمته ومن الحاجة إلى إعادة اكتشاف زمنه وزمن رفاقه مثل عبدالفتاح إسماعيل وصالح مصلح وعلي شائع وغيرهم. لأن ما حدث في 86 لا يقلل من قيمة أولئك الرجال بقدر ما يكشف عن صعوبة تحويل الأفكار في مجتمع متخلف وفي بيئة سياسية معقدة إلى واقع يمتلك عوامل الديمومة والتطور. في النهاية كان علي عنتر ضحية للنظام الذي كان أخطر أعدائه يكبرون بداخله وضمن مؤسساته وحاضنته.

أعتقد أن أزمات اليمن في وقتنا الراهن أكبر حافز لتقييم إرث الشخصيات المحورية في تاريخنا الحديث والقادة الراحلين، ليس من باب الحنين ولكن لاستخلاص الدروس والتنبه إلى هيمنة منظومة التخلف التي تنقل الخطر في واقعنا من عقد إلى آخر ومن مرحلة لأخرى ومن جيل لجيل، وسنرى أن التحديات الراهنة التي يعيشها اليمن اليوم ورثها من مراحل سابقة لم تنجح في حسم الصراع ولم تفلح في دفن أشكال عديدة للماضي المؤذي للحاضر والمدمر للمستقبل المفترض أو الطبيعي والمأمول.

وبالعودة إلى الراحل علي عنتر كانت مرجعيته الوحدوية قائمة على رؤية ثورية طليعية ترى في الوحدة مصيرًا طبيعيًا لشعب واحد، وهذه الرؤية أصبحت اليوم غريبة في بيئة علي عنتر والمحافظة التي أنجبته، فالوحدة كمبدأ تواجه اليوم التيار المعاكس لها الذي وجد في فشل تطبيق وحدة مايو 1990 مبررا لنبذ المبدأ واستبعاده ومحاولة بناء هوية جنوبية تنهض على أساس إنكار واستبعاد كل ما آمن به علي عنتر من الانتماء لليمن، لأن من يقودون الشارع اليوم لا يرون في اليمن إلا الشمال كما عرفوه بعد صيف 1994 ويريدون إسقاط يمن 94 الذي اغتال الوحدة اليمنية على التاريخ والماضي الممتد وعلى الحاضر وعلى المستقبل وكأن نهج يوليو 94 بزعامة علي صالح هو القدر المحتوم والنهج الأبدي، وهذه مغالطة كبرى في الحقيقة، بدليل أن الشمال نفسه الذي دمر الوحدة كان تحت حكم رئيس سابق هو إبراهيم الحمدي، ولو أن الوحدة تمت في عهده لم تكن ستتعرض للانتكاسة التي حصلت علي يد نظام 7 يوليو الذي استفرد بكل شيء حتى سقوطه وانهياره ودخول البلاد بكل جهاتها في النفق الجديد.

أعود إلى وضوح وجرأة علي عنتر الذي كانت مرجعيته الثورية قائمة على اعتماد مبدأ النضال المسلح، رغم أن هذا المبدأ يبدو اليوم ضمن الحلول الحاسمة التي لا بد منها إلا أن القوى التي تضع نفسها في واجهة المشهد جميعها صانعة أزمات وليست بريئة من تعميق الكارثة التي تعيشها اليمن. فهل نصدق أن قوات السلفيين وكتائبهم ومعسكراتهم أو القوات التابعة للإخوان المسلمين ستحررنا من القادمين من الكهوف الموازية، أم نراهن على المجموعات المسلحة التابعة لفلان أم نثق بمن سيفه معنا إلى حدود الضالع من أجل أن يضع برميل التشطير الذي كان علي عنتر يكافح من أجل اقتلاعه إلى الأبد؟

عندما نتأمل هذه المجموعات المسلحة ندرك إلى أي مدى تغلغلت مختلف أشكال الرجعية والتخلف والتطرف والجهل والارتزاق وتأجير المواقف والسواعد في لحظتنا الراهنة، وندرك أكثر أن مشروع علي عنتر ورفاقه كان ينتمي للمستقبل وأنه كان على صواب، وأن جميع القوى المسيطرة على الساحة وتتقاسم اليمن بقوة الأمر الواقع تعتبر جزءًا من المشكلة لا الحل.

فكل جماعة لها قائد وكل جماعة ترفع شعارات خاصة بها وكلما تعددت الشعارات والغايات ظهر البيع والشراء وتحولت المواقف إلى تجارة باسم الوطن والسياسة والحرب والسلام.كان علي عنتر يتحدث عن الكادحين والطبقات الفقيرة وعن توفير الخدمات وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولعل أبلغ ما يلخص جوهر هذا المنطق حكاية أخرى وما أكثر الحكايات التي تروى عن علي عنتر وهذه نشرها مغرد وجدتها على منصة إكس، يروي فيها أحدهم كيف انقطعت الكهرباء لربع ساعة فقط في بعض مناطق العاصمة عدن.

فاتصل نائب الرئيس حينها علي أحمد ناصر عنتر بوزير الكهرباء آنذاك، عبد القادر باجمال، الذي بدأ يشرح الأسباب الفنية للانقطاع. فقاطعه عنتر بحسمه المعهود قائلًا: "اسمع انا ما اعرف ارميشن ولا انتيفيكيشن انا اعرف كهرباء تولع الآن" وختم صاحب التغريدة بقوله: "اليوم معانا لصوص يا عم علي أحرقوا شعب الجنوب".

هنا يكمن معنى الحنين إلى زمن علي عنتر ليس المنظّر الاشتراكي وإنما القائد الذي يعرف أن المهم هو أن "تولع الكهرباء" للمواطن. القائد الذي يرى في معاناة الناس فشلاً شخصيًا له.

على المستوى الشخصي لا أؤمن باننا سنعيد بناء دولة في اليمن بتأليه الأموات وأولهم علي عنتر وحتى عبدالفتاح إسماعيل والحمدي وسالمين بالرغم من عظمتهم، لكننا نحتاج إلى قراءة تجاربهم لنعرف إلى أين وصلنا وإلى أين انحدرنا سواء في الضالع أو في صنعاء، لأن إعادة قراءة ما كان يقوله ويؤمن به علي عنتر يكشف لنا بمنطق اليوم ومعاناة اليوم أنه لم يكن مثالياً بل واقعياً وينطلق من المصلحة العامة وليس من الشعارات لأجل الشعارات والمزايدة بها.

لعلي عنتر كما لغيره من قادة الصف الأول أخطاؤه وتناقضاته لأنه في المقام الأول إنسان غير معصوم من الزلل، لكنه كان قائداً سياسياً عظيماً حمل مشروعاً وطنياً طموحا عابراً للجهات كان همه اليمن الكبير الذي حين نراه يغرق في الصراعات والفقر والفوضى والانقسامات على أسس متخلفة وطائفية ومناطقية نحتاج إلى روح علي عنتر وإلى منطقه وخطابه.

روح علي عنتر كانت روح من يؤمن بأن الشعب هو الأساس وروح من يرفض التبعية ويرى في الوحدة فرصة للجميع وفي العدالة هدفاً لمصلحة الكادحين.

وربما لم ينصف علي عنتر الوقت الذي عاش فيه لكننا اليوم نرى أنه وأمثاله كانوا على صواب وأن القبول التدريجي أو التبرير لقوى التخلف بالتقسيط يقودنا في النهاية إلى هاوية سحيقة من الفوضى والضياع والتآمر على هوية اليمن الجمهوري الحر المستقل.

رحم الله علي عنتر الذي ما زال يخطب فينا بصوته الأجش ويشير بأصبعه وبكلماته إلى مكمن الخطأ، ولكن من يصغي اليوم لصوتك يا علي عنتر؟

(من صفحة الكاتب في فيس بوك)

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI