تعتبر معركة البيت الأبيض واحدة من أبرز المحطات السياسية التي تهيمن على الساحة العالمية في عصرنا الحالي، حيث تتداخل فيها القضايا المحلية والدولية في صراع متواصل على النفوذ والسلطة.
وتجلت هذه المواجهة في حوار حاد بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونائبه جي دي فانس من جهة والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من جهة أخرى أمس الأول الجمعة، فدارت النقاشات الحامية في المكتب البيضاوي أمام عدسات الكاميرات وصحافيي العالم. وفي خضم هذه الديناميكيات المتسارعة يبقى للشعوب العربية نصيب من التأثير، إذ تتجسد معاناتهم وآمالهم في كل قرار يتخذ خلف جدران هذا المعلم التاريخي.
صراع المكتب البيضاوي
يتقاطع هذا الصراع مع قضايا مركزية تؤرق العالم العربي، على رأسها القضية الفلسطينية التي بقيت جرحاً نازفاً يستدعي دعماً مستمراً وضغطاً متواصلاً على صناع القرار. ويبرز دور القادة العرب، مثل ملك الأردن الملك عبدالله بن الحسين الذي تعرض لهجوم إعلامي بعد مقابلته للرئيس الأميركي، إذ أتت المحادثات في وقت حساس، فأعرب ترمب عن إمكان "تصوره" لوقف مليارات الدولارات من المساعدات الأميركية لكل من الأردن ومصر إذا رفضا استقبال الفلسطينيين الذين يعتزم نقلهم من وطنهم.
ويأتي الاجتماع في وقت يبدو وقف إطلاق النار في غزة هشاً وسط تحذيرات ترمب من أن "الجحيم" قد ينفجر إذا لم تطلق حركة "حماس" سراح جميع الرهائن. وفي سياق الاجتماع، وفقاً لما نقلته شبكة "سي أن أن" الأميركية، "لم يرفض الملك الأردني الذي جلس إلى جانب ترمب، فكرة الرئيس بصورة مباشرة، إلا أن انزعاجه كان ملموساً"، وأشار إلى أن مقترحات بديلة لمستقبل غزة ستُقدم قريباً.
وقال ترمب للملك عبدالله الثاني في المكتب البيضاوي "هذا ليس شيئاً معقداً لتحقيقه"، مضيفاً أن السيطرة الأميركية على غزة ستسهم في استقرار الشرق الأوسط، لكن العاهل الأردني رد بحذر، مشدداً على أهمية الاعتبارات الإقليمية ومشيراً إلى وجود خطة من مصر والدول العربية وإلى ضرورة التفكير في كيفية تنفيذ ذلك بصورة تعود بالنفع على الجميع.
محاولة تخفيف التصعيد
وفي محاولة لتخفيف التوترات أعلن الملك عبدالله الثاني عن قبول الأردن 2000 طفل مريض من غزة لتلقي العلاج الطبي في خطوة نالت إشادة ترمب، ومع ذلك استمر الرئيس الأميركي في الدفع برؤيته لتحويل غزة إلى منتجع ساحلي يضم فنادق ومساكن للزوار من جميع أنحاء المنطقة.
ووصف مراقبون استجابة الملك عبدالله بقبول الأطفال بأنها خطوة استراتيجية ذكية تهدف إلى تجنب التصعيد، مما كان ترمب يسعى إليه وحضر ملك الأردن الاجتماع مستعداً بصورة جيدة لتفادي مواجهة مباشرة.
ووصفت صحيفة "واشنطن بوست" من جانبها الاجتماع بأنه يعقد في لحظة حساسة بالنسبة إلى العاهل الأردني الذي يواجه تحديات بين خطة ترمب المثيرة للجدل وارتفاع مستويات عدم الاستقرار في الداخل.
وذكرت الصحيفة أن الملك تجنب الدخول في تفاصيل النقاش، حرصاً على عدم تعريض 1.5 مليار دولار من المساعدات الأميركية السنوية إلى الأردن للخطر.
إضافة إلى ذلك أُرجئت زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى البيت الأبيض التي كانت مقررة في اليوم التالي لتفادي موقف مماثل من المتوقع أن يتعرض له.
معارك على الطاولة الدبلوماسية
وكشف المستشار السياسي باسل الحاج جاسم عن أن كثيراً من المسؤولين أشاروا خلال لقائه بهم إلى أن "ما يحدث خلف الكواليس أكبر بكثير مما نشهده في العلن"، لافتاً إلى حادثة سابقة تعرض لها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي واجه موقفاً محرجاً خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فكاد أن يفقد وعيه بسبب الإهانة التي تعرض لها.
فرصة ذهبية
وشهدت الساحة السياسية الأميركية جدلاً واسعاً حول مواقفها تجاه الشرق الأوسط، مما يتيح لمعارك البيت الأبيض فرصة ذهبية لإعادة تقييم العلاقات وصياغة استراتيجيات جديدة وفق المراقبين، إذ تُطرح على طاولة السياسة العالمية تساؤلات مهمة، فهل ستتمكن الأصوات العربية من التأثير في مسار السياسات الأميركية لتصب في مصلحة القضايا العادلة وتخفيف معاناة الفلسطينيين؟
يؤكد الباحث في الشؤون الخارجية عزام الشدادي على أهمية معركة البيت الأبيض في صياغة مستقبل القضايا العربية، ويشير إلى أنه تابع اللقاء الأخير بين زيلينسكي وترمب ولاحظ الضغط الكبير الذي واجهه الرئيس الأوكراني، مما جعله في موقف ضعيف ويثير تساؤلات حول كيفية تأثير الدول العربية في القرار الأميركي.
ويعتبر الشدادي أن "البيت الأبيض يُعدّ مركزاً حيوياً لرسم السياسات العالمية ويعكس هيمنة الولايات المتحدة على الساحة الدولية. وفي ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، خصوصاً بعد عام 2024، يجب على الدول العربية أن تدرك أن التغيرات في المعادلات العالمية قد تفتح أمامها فرصاً جديدة".
ويسلط الضوء على القضايا المصيرية التي تتزايد أهميتها اليوم مثل القضية الفلسطينية والتوازن الإقليمي والعلاقة مع إيران، مشدداً على "ضرورة أن تسعى الدول العربية، بخاصة السعودية، إلى الضغط على واشنطن لتبني مواقف أكثر توازناً، بعيداً من الالتزامات التاريخية التي من الممكن أن تعقد الأمور".
ويشير الشدادي وهو عضو جمعية العلوم السياسية في جامعة كينغستون إلى "أن السعودية تمتلك أوراقاً استراتيجية قوية تجعل الحوار مع ترمب مختلفاً تماماً عن لقاءاته مع زعماء آخرين، فهي ليست في موقف ضعف، بل لديها قدرات تؤهلها للقيام بدور رئيس على الساحة الدولية".
ومع ذلك يوضح "أن التحديات قائمة، إذ يتبنى ترمب سياسة أميركا أولاً، مما يعني أن المصالح الأميركية ستظل في مقدمة أولوياته. ويتطلب ذلك من الدول العربية تنسيق جهودها والتخطيط بصورة استراتيجية مع التركيز على تعزيز العلاقات مع قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا".
وينوه الشدادي بأن "معركة البيت الأبيض ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة. والدول العربية تمتلك أوراقاً كثيرة والتحدي الحقيقي يكمن في كيفية استخدامها بذكاء لضمان أن يكون صوتها مسموعاً في واشنطن، بخاصة مع إدارة تعتمد على منطق الصفقة التجارية أكثر من الالتزام الاستراتيجي".
ويقول المحلل السياسي السوري غسان إبراهيم من جهته إنه "خلال الاجتماع المغلق بين زيلينسكي وترمب، لم يحصل ترمب على ما كان يتوقعه، إذ لم يشعر بأن زيلينسكي يستمع إليه بجدية، مما دفعه إلى إعلان النقاش بصورة علنية أمام الصحافيين. وهذا الأمر يظهر العقلية الأميركية الحالية، إذ يبدو أن بعض المسؤولين لا يملكون رؤية أوسع من مصالحهم الضيقة".
أما بالنسبة إلى الوضع في غزة وسوريا فأشار إبراهيم إلى أن "الأمور تختلف بصورة جوهرية، إذ إن ترمب في سياق التغييرات المحتملة قد يكون أكثر انفتاحاً على فكرة السلام بين سوريا وإسرائيل. ومع ذلك فإن تأثير سوريا في غزة محدود، ولا أرى أن العرب قادرون على تقديم مشروع بديل للخطط التي يطرحها ترمب".
وأضاف أن "ترمب يطرح أفكاراً كوسيلة لتحريك الأمور، لكنه ليس جاداً حول الاستثمار في غزة. هو يسعى إلى استفزاز العرب ودفعهم لتقديم حلول مثل إخراج حركة ’حماس‘ من غزة. لكن من الواضح أنه لا يوجد من يستطيع القيام بذلك".
وأردف "نجد أن ترمب يفضل ترك الأمور تسير لمصلحة إسرائيل، بحيث يزودها بالأسلحة الكافية للتعامل مع الوضع في غزة، تاركاً الفلسطينيين في وضع صعب بين مصر والأردن. وفي غزة الخيارات العربية شبه معدومة".
أما عن الوضع في سوريا فقال ابراهيم إنه يختلف، إذ يتطلب التعامل مع ترمب أسلوباً شبيهاً بما فعله رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، فيجب استغلال أي فرصة لإطلاق حوار فاعل معه".