منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في منتصف أبريل/ نيسان 2023، طفت على السطح أزمة إنسانية تعتبر واحدة من أسوأ الأزمات في العالم، إذ بات أكثر من نصف سكان السودان البالغ عددهم 45 مليون نسمة يعانون الجوع الشديد والحاجة الماسة إلى المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة، لا سيما أن تأثيرها يزداد في المناطق التي تشهد أزمات غذاء ودواء متتالية في إقليمي دارفور وكردفان، إضافة إلى العاصمة الخرطوم، مع تصاعد أعداد النازحين الفارين من المواجهات الساخنة ووفاة مئات الأشخاص جوعاً وسط انتشار واسع النطاق للأمراض المرتبطة به بخاصة بين الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل والمرضعات.
هذا الواقع المأسوي خلف فجوة كبيرة في الحاجة إلى الدعم الإنساني الذي ظل يواجه تحديات جمة، أبرزها عرقلة مساعي المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة من الوصول إلى المتضررين.
بيد أن الأمر الطبيعي هو أن تتولى مفوضية العون الإنساني القومية أو الولائية عمليات تسلم المعونات وانتشال الملايين من الموت البطيء الناتج من شبح المجاعة، إذ هناك تدخلات من جهات قللت من فاعلية إدخالها على رغم تلقي البلاد ما يزيد على ربع مليون طن متري من المواد الإغاثية عبر مطار بورتسودان ومعبر أدري الحدودي مع دولة تشاد، إلا أن الشبهات والتجاوزات والغموض ظلت تدور حولها، مما فتح باب الفساد والتلاعب بالمساعدات الإنسانية.
ومع استمرار تدهور الأمن الغذائي، أكدت لجنة مراجعة المجاعة التابعة للتصنيف المتكامل لمراحل الغذاء وجود مجاعة في المرحلة الخامسة في مناطق مثل معسكر زمزم في شمال دارفور منذ يوليو/ تموز 2024، وبين ديسمبر/ كانون الأول 2024 ومايو/ أيار 2025، توسعت لتشمل خمس مناطق إضافية بما في ذلك أم كدادة ومليط والفاشر، مع الخطر الجسيم الذي وصل إلى 17 منطقة أخرى.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، فإن طفلاً يموت كل ساعتين بسبب سوء التغذية في مخيم زمزم للنازحين، وأن نحو 24 مليون طفل تضرروا من الحرب الحالية، بينما يعاني 730 طفلاً سوء التغذية الحاد.
هذا الوضع يثبت أن المجاعة ليست حالاً طبيعية، بل هي نتيجة مباشرة لتعطيل الوصول المتعمد للمساعدات، مما يجعل التجويع استراتيجية صراع متوسعة ومستدامة.
موجة نزوح
في السياق قالت الحكومة السودانية في تصريحات سابقة إن رؤيتها ترتكز على أن يكون الدعم للمدنيين كافة من دون تمييز ديني أو عرقي أو سياسي.
وأوضحت أن ذلك حصل عبر فتح المعابر والمسارات والمطارات، وشمل حتى المنافذ التي تقع خارج سيطرتها كمعبر أدري.
وبحسب مستشار شؤون المنظمات والعمل الإنساني الصادق إسماعيل، فإن أكثر المناطق التي باتت في حاجة ملحة إلى المساعدات هي مناطق شمال دارفور وجنوب كردفان، إذ يحتاج المواطن فيها إلى الغذاء والدواء، وطالب المنظمات العاملة بإيصال الدعم لتلك المناطق بعد فتح مسارات من قبل الحكومة، وقال إن الدولة شكلت لجنة للطوارئ لمساعدة العون الإنساني لتسهيل عملية إدخال المعونات لكل ولايات السودان.
لاحقاً، كشفت مفوضة العون الإنساني في السودان سلوى آدم بنية عن تصاعد موجات النزوح في مناطق القتال التي بلغت أخيراً مليوناً و300 ألف و645 شخصاً.
وأشارت إلى أن عدد النازحين الذين فروا من مخيم زمزم إلى الفاشر بلغ نحو 515 ألفاً، بينما تجاوز عدد الفارين من أبو شوك نحو الطويلة 48 ألفاً و600 نازح، فيما نزح عدد من أهالي طويلة إلى منطقة الطينة في تشاد.
وأكدت أن ولاية غرب كردفان شهدت موجة نزوح، إذ وصل عدد النازحين من النهود أكثر من 200 ألف شخص، منهم 75 ألفاً نزحوا إلى منطقة ود الحليو و18750 نزحوا من المدينة إلى أبو ماريكا، في وقت نزح من منطقة الخوي إلى الجودي أكثر من 70 ألف شخص.
أما في ولاية شمال كردفان فوصل عدد النازحين من منطقة كازفيل إلى مدينة الأبيض 90 ألفاً، وبلغ عدد النازحين من بارا 53 ألفاً، فيما نزح من مناطق الجموعية جنوب غربي أم درمان نحو 110 آلاف مواطن.
وقالت بنية وفقاً لهذه الإحصاءات "حاجة المدنيين إلى المساعدات باتت أزمة بالغة، إذ قامت الحكومة السودانية في ظل الأوضاع الإنسانية المتفاقمة بفتح 12 معبراً، لكنها لم تستغل وجرى استخدام أربعة فقط".
ولفتت إلى أنه في دارفور جرى استخدام معبري أدري والطينة، وفي شمال السودان استخدم معبرا أرقين وأشكيت، وعلى رغم كل هذه المسارات فإن قوافل الإغاثة لا تصل إلى مدينة الفاشر والنازحين في المخيمات.
وعلى صعيد متصل شكت المفوضية من تغيير وجهات بعض الشاحنات التي تحمل المعونات، مما يعرقل عملية انسيابها.
وبينت أن هناك ضوابط خلال الفترة المقبلة لتسهيل عمل المنظمات وعدم تكدس القوافل في المعابر الحدودية، فضلاً عن حماية العاملين في المجال الإنساني التي تعتبر من واجبات الحكومة، إذ لا توجد عوائق في وصول المساعدات للمناطق التي تقع تحت نفوذ الجيش.
اصطفاف وعوز
من جهته، يقول المواطن موسى عبدالرحمن أحد سكان ضاحية الكلاكلة جنوب الخرطوم "المعاناة في الحصول على الغذاء مستمرة، وتزداد بصورة يومية بخاصة وسط المواطنين الذين يعانون هشاشة اقتصادية، وظلوا عالقين طوال أشهر الحرب وتغلبت عليهم الأوضاع الإنسانية المزرية التي فرضها الصراع الحالي".
وأضاف "خطر شبح المجاعة يهدد غالبية السكان بسبب توقف المطابخ الخيرية ونفاد المدخرات وممارستهم أعمالاً لا تدر دخولاً مجزية، مما أدى إلى البحث عن أمكنة توزيع المساعدات الإنسانية عقب انسيابها حين الإعلان عن خلو العاصمة من قوات ’الدعم السريع‘، إذ تقتصر على الأسر التي جرى تسجيلها في الكشوفات، وفي الغالب تصادف السقوط ويعود المواطنون بأوانٍ فارغة يلازمهم اليأس وفقدان الأمل في سد الجوع".
وتابع عبدالرحمن "الجهات المسؤولة لا تكترث بمعاناة السكان، فضلاً عن أن المواطنين من رجال ونساء يكونون في حال اصطفاف منذ الصباح الباكر وأحياناً يضطرون إلى الوقوف طوال ساعات النهار في الميادين وسط مياه الأمطار الراكدة لتسلم الحصص التي لا تكفي أسبوعاً واحداً بسبب زيادة العوز والجوع وسط المحتاجين".
وأوضح المواطن أن "سكان العاصمة الخرطوم في أمس الحاجة إلى المعونات الإنسانية في ظل ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وعدم مقدرتهم على الشراء، وللأسف علمنا أن هناك أطناناً من المساعدات الإنسانية وصلت البلاد من دول ومنظمات عدة، وإذا ما اتبعت النزاهة في توزيعها من شأنها القضاء على أزمة الجوع وملء البطون الخاوية وحال الهزال بسبب تفشي مرض سوء التغذية الحاد وسط الأطفال والمسنين والنساء الحوامل".
تحكم بالمساعدات
وفي دارفور، أعلنت المطابخ الجماعية التطوعية الموجودة في الفاشر توقفها عن العمل في مجال تقديم الطعام للنازحين والعالقين بسبب نفاد المواد الغذائية وتردي الأوضاع الأمنية.
في هذا الصدد قال المتطوع أحمد شوقار إن "سكان الفاشر الذين لم يستطيعوا النزوح تسوء أحوالهم الصحية نتيجة عدم توفر الغذاء بسبب انقطاع المساعدات الإنسانية وتعثر دخولها إزاء سيطرة ’الدعم السريع‘ على المعابر الحدودية".
وشدد شوقار على ضرورة أن تكون "المساعدات الإنسانية أداة محايدة لتخفيف المعاناة في سياق النزاع المعقد في السودان، لكن المؤسف اتخذتها الأطراف المقاتلة سلاح حرب ضد المدنيين بالحرمان المتعمد من الغذاء والدواء والمأوى، وهو بلا شك انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني ويندرج ضمن جرائم الحرب والتسبب في ظروف معيشية قاسية".
(اندبندنت عربية)