تكشف سلسلة جديدة من البرقيات الدبلوماسية السرية المفرج عنها حديثاً من الحكومة البريطانية، عن رفض الحكومة البريطانية استضافة رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً علي سالم البيض، الذي تقدم بطلب للحصول على التأشيرة البريطانية بعد أشهر قليلة من انتهاء الحرب الأهلية في اليمن عام 1994، بسبب خشيتها من قيامه بأنشطة سياسية معارضة من أراضيها.
ووفق برقيات تتعلق بالسفارة البريطانية لدى سلطنة عمان، ويعود تاريخها لعامي 1994 و1995، فإن الحكومة البريطانية بحثت التداعيات السياسية والدبلوماسية لطلب رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً ونائب الرئيس اليمني السابق وزعيم الجنوب خلال الحرب الأهلية اليمنية، للحصول على تأشيرة دخول إلى المملكة المتحدة في نهاية عام 1994. وكان علي سالم البيض يقيم في سلطنة عمان في ذلك الوقت، بوصفه لاجئاً سياسياً في أعقاب حرب اليمن الأهلية.
ووقع البيض اتفاق وحدة مع رئيس الجمهورية العربية اليمنية علي عبدالله صالح، آنذاك، لتأسيس الجمهورية اليمنية في الـ22 من مايو/ أيار 1990، ورفعا معاً علم الوحدة ليقتسما السلطة حتى مايو 1994، عندما اندلعت الحرب التي استمرت حتى يوليو/ تموز من العام نفسه.
وتظهر الوثائق المفرج عنها حديثاً، قراراً بالرفض صادر عن وزير الداخلية البريطاني في الـ22 من ديسمبر/ كانون الأول عام 1994، يتعلق بطلب تقدم به سالم البيض للحصول على تأشيرة دخول إلى المملكة المتحدة بصفة مستثمر.
وكان القرار نتيجة مشاورات سابقة بين وزارتي الداخلية البريطانية ووزارة الخارجية التي أحالت مذكرة في الثاني من ديسمبر من العام نفسه في شأن الطلب. وبعد دراسة الموضوع ونصائح الخارجية، رأى وزير الداخلية أن منع دخول البيض إلى الأراضي البريطانية يصب في المصلحة العامة، ويحافظ على علاقات المملكة المتحدة مع الجمهورية اليمنية.
وعلى رغم إقرار الوزير بأن خلفية البيض السياسية مثيرة للجدل، فإن المبرر الأساس للقرار لم يكن تلك الخلفية، بل الاعتبارات الدبلوماسية المرتبطة بعلاقة لندن بصنعاء. وبناء على ذلك، تقرر رفض طلب التأشيرة، مع التنويه إلى أن البيض لا يملك حق الاستئناف على القرار ضمن القنوات المعتادة لشؤون الهجرة.
غير أن الوثيقة أشارت إلى احتمال أن يلجأ البيض، نظرياً، إلى المراجعة القضائية للطعن في القرار، خصوصاً بالنظر إلى أن الحكومة البريطانية كانت قد وافقت في أغسطس/ آب من العام نفسه على منحه تأشيرة زيارة قصيرة، بعد ضغوط من وزارة الخارجية.
وبهذا القرار، وضعت الحكومة البريطانية حداً لمحاولة علي سالم البيض دخول المملكة المتحدة في مرحلة كانت تشهد العلاقات اليمنية- البريطانية حساسية دبلوماسية بالغة عقب توحيد اليمن والحرب الأهلية التي أعقبته.
وفي الـ13 من يناير (كانون الثاني)، أصدر وزير الخارجية البريطاني برقية سرية موجهة إلى السفارة البريطانية لدى صنعاء، تحت رقم 12، مع نسخة إلى سفارة المملكة المتحدة لدى مسقط، وأخرى معلوماتية إلى الرياض. حملت البرقية عنواناً مقتضباً هو "البيض".
وأوضحت البرقية أن وزارة الداخلية البريطانية قامت في ذلك اليوم بإبلاغ محامي البيض رسمياً بقرار استبعاده من دخول المملكة المتحدة، وذلك خلافاً للنصيحة السابقة الواردة في الفقرة الرابعة من تقرير"TUR" لعام 1994، والتي كانت قد أوصت على ما يبدو بموقف أكثر مرونة تجاه طلبه.
المصلحة البريطانية العامة
وقد اتفقت وزارة الخارجية مع وزارة الداخلية على خط صحافي موحد للتعامل مع الأسئلة الإعلامية المحتملة حول القرار. ونص هذا الخط على أن وزير الداخلية قرر استبعاد علي سالم البيض من المملكة المتحدة لأن وجوده لا يخدم المصلحة العامة للبلاد. كما أعدت الوزارتان إجابات جاهزة للأسئلة المتوقعة من الصحافيين أو من الجهات الرسمية، وجاءت كالتالي:
سؤال: بأي طريقة لا يخدم وجوده المصلحة العامة؟
الجواب: ليست من سياسة الحكومة مناقشة هذه المسائل علناً.
سؤال: على أي أساس تقدم بطلب دخول المملكة المتحدة؟
الجواب: تقدم بطلب كمستثمر وفقاً لقواعد الهجرة البريطانية.
سؤال: هل مارست الحكومة اليمنية ضغوطاً على بريطانيا بهذا الشأن؟
الجواب: لم تطرح الحكومة اليمنية هذا الموضوع معنا.
سؤال: هل يملك البيض حق الاستئناف؟
الجواب: بموجب المادة 13 (5) من قانون الهجرة لعام 1971، لا يملك حق الاستئناف أمام السلطات القضائية المتخصصة.
واختتمت البرقية بتوجيه من الوزير إلى السفارات البريطانية في المنطقة، طالباً منهم إبلاغه إذا كانوا في حاجة إلى مواد أو تعليمات إضافية لاستخدامها في التعامل مع الجهات اليمنية أو العمانية المعنية بالقضية.
مشاورات بريطانية- عمانية
وفي الـ17 من يناير عام 1995، أرسل السفير البريطاني في مسقط برقية سرية إلى وزارة الخارجية في لندن، حملت رقم 24، مع نسخ إلى السفارات البريطانية في صنعاء والرياض، أوضح فيها أنه انتهز فرصة لقائه بأمين عام وزارة الخارجية العمانية، سيد هيثم بن طارق، في سياق نقاش حول موضوع آخر، ليبلغه رسمياً أن وزير الداخلية البريطاني قرر استبعاد البيض من دخول المملكة المتحدة. وقدم له شرحاً مختصراً لأسباب القرار استناداً إلى تقرير "TUR" الذي سبق أن ناقش التقديرات المتعلقة بتداعيات وجود البيض في بريطانيا.
كما طلب السفير من هيثم نقل هذه المعلومات إلى قيس زواوي، أحد المسؤولين العمانيين البارزين الذي كان آنذاك في جولة مع السلطان قابوس. ولم يبدِ السيد هيثم أي دهشة من القرار البريطاني، وأوضح أنه، ما دام البيض يعيش في سلطنة عمان بهدوء وبحالة صحية ضعيفة، فإن الأمر لا يشكل أزمة في الوقت الراهن. لكنه أضاف أن السماح للبيض بدخول المملكة المتحدة كان قد يفتح أمامه المجال لاستئناف نشاطه السياسي، وهو احتمال لم يكن مستبعداً بالنظر إلى خلفيته وطموحاته السابقة، ومن ثم فقد تفهم الموقف البريطاني وعده منطقياً.
ومع ذلك علق هيثم بابتسامة على أن قيس زواوي ربما لن يشارك هذا التفهم، لأن وزارة المالية العمانية التي يشرف عليها زواوي كانت لا تزال تتحمل كلف إقامة البيض في السلطنة. ورد الدبلوماسي البريطاني باقتراح غير مباشر مفاده أن العمانيين قد يرغبون في تشجيع البيض على أن يصبح مستثمراً في عمان، في محاولة لإضفاء طابع اقتصادي على وجوده بدلاً من كونه سياسياً منفياً. وقد ذيل البرقية المبعوث البريطاني موير، الذي كان يقود التواصل الدبلوماسي حول القضية في المنطقة.
وفي اليوم نفسه، بعث موير برقية أخرى إلى وزارة الخارجية في لندن، مع نسخ معلوماتية إلى صنعاء والرياض، يشير فيها إلى أن محامي علي سالم البيض قد استلموا رسمياً قرار الرفض في الـ15 من يناير. وأوضح أن المحامين كانوا قد طلبوا اعتماد هذه الطريقة في الإخطار نظراً إلى الوضع الصحي المتدهور لموكلهم، وهو ما وافقت عليه السلطات البريطانية من باب اللياقة الإجرائية.
لندن تخشى أن يتزعم البيض المعارضة اليمنية في الخارج
وفي الـ26 من يناير عام 1995، أعد آر. دبليو. غيبسون من قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية البريطانية مذكرة موجهة إلى المستشارين الخاصين، تناولت قضية طلب التأشيرة الذي تقدم به السياسي اليمني علي سالم البيض، نائب الرئيس السابق وأحد أبرز قادة الجنوب اليمني.
تطرق غيبسون إلى ملاحظات وزير الداخلية في مذكرته المؤرخة في الـ22 من ديسمبر1994، التي أشارت إلى احتمال اضطرار الحكومة البريطانية لتبرير موقفها الرافض، بخاصة أن لندن كانت قد أبدت في أغسطس/ آب الماضي استعداداً مبدئياً لمنح البيض تأشيرة للعلاج الطبي بعد ضغوط قوية من وزارة الخارجية.
وأوضح أن هناك أسباباً وجيهة دفعت إلى تغيير موقف وزارة الخارجية منذ ذلك الوقت. ففي أغسطس، كانت موافقة لندن على منح البيض تأشيرة زيارة للعلاج الطبي نتيجة ضغوط من حكومتي عمان والسعودية، إذ كانت مسقط تدعو صراحة للسماح له بالدخول إلى المملكة المتحدة، وكانت الرياض تؤيد الموقف نفسه.
وقد رأت لندن حينها أن رفض طلب التأشيرة قد يسبب توتراً في علاقاتها مع هاتين العاصمتين. ومع ذلك لم تبدِ الحكومة البريطانية حماساً كبيراً لهذا التوجه، ورفضت السماح لعائلته بمرافقته. وفي النهاية، لم يقم البيض بالرحلة إلى بريطانيا.
لاحقاً، وبعد أن قدم البيض طلباً جديداً لدخول المملكة المتحدة بصفته مستثمراً، تغير الموقف البريطاني جذرياً. فبحلول ذلك الوقت، كانت الظروف السياسية والإقليمية قد تبدلت، إذ لم تعد سلطنة عمان تمارس أي ضغوط لقبوله، بل بدت متقبلة لفكرة استقراره على أراضيها، بينما كانت السعودية قد بدأت إصلاح علاقاتها مع النظام اليمني في صنعاء وفقدت اهتمامها السابق به.
من جهة أخرى بدا أن البيض قد تعافى من تبعات هزيمته السياسية والعسكرية، وبدأ يظهر مؤشرات إلى عودته للنشاط السياسي، مما أثار مخاوف من أن يتحول إلى مركز تجمع للمعارضة اليمنية المقيمة في الخارج، خصوصاً بعد تأسيس "الجبهة الوطنية اليمنية" في لندن. كما حذرت الحكومة اليمنية من احتمال اتخاذ خطوات لاسترداد الأموال التي كان البيض يعتمد عليها في طلبه للإقامة كمستثمر.
في خضم هذه التحولات، كانت العلاقات البريطانية اليمنية تشهد تحسناً تدريجاً. ورأت لندن أن السماح للبيض بدخول أراضيها في تلك المرحلة لن يعود عليها بفائدة سياسية، بل قد يثير اعتراض الحكومة اليمنية ويعرقل التقارب الحاصل معها، من دون أن يقدم أي مكسب ملموس في علاقاتها مع مسقط أو الرياض.
(اندبندنت عربية)