إن الثروة البحرية لليمن تُعد كنزًا حقيقيًا من الفرص، ومصدرًا هائلًا للإمكانات في بلدٍ تائه وسط بحرٍ من الصراعات. يمكن لاقتصادٍ أزرقٍ متجدد أن يتحول إلى محرّك قوي لتنويع الاقتصاد، وخلق فرص العمل، وتعزيز الأمن الغذائي.
لكن الطريق نحو استثمار هذا الإمكان محفوف بالمخاطر. فالأمواج المتلاطمة من الاضطرابات السياسية، والبنية التحتية المتهالكة، والأزمة الإنسانية الخانقة، جميعها تهدد بتحطيم أي آمال في انتعاش تقوده “المياه الزرقاء”.
الأفق المشرق: بحر من الفرص
إن جاذبية الاقتصاد الأزرق لليمن لا يمكن إنكارها، فالفوائد المحتملة واسعة كاتساع المحيط نفسه:
1. محرك اقتصادي جديد
في بلد يعتمد اعتمادًا مفرطًا على قطاع نفطي متناقص ومتأثر بالحرب، يقدم الاقتصاد الأزرق طريقًا حيويًا نحو التنويع. من خلال تطوير قطاعي الصيد وتربية الأحياء المائية، وتعزيز التجارة البحرية، يمكن لليمن أن يبني قاعدة اقتصادية أكثر مرونة واستدامة، أقل عرضة لتقلبات أسواق الطاقة العالمية والاضطرابات الداخلية.
2. موجة من فرص العمل الجديدة
سيخلق تطوير اقتصاد أزرق مزدهر موجة من فرص العمل — من الصيادين ومزارعي الأسماك إلى عمال الموانئ والعاملين في قطاع السياحة البحرية. لن يوفر ذلك مصدر رزق لآلاف الأسر فحسب، بل سيساعد أيضًا في معالجة البطالة الواسعة التي تغذي الاضطرابات الاجتماعية وانعدام الاستقرار.
3. تغذية أمة جائعة
في بلد يعاني فيه الملايين من الجوع يوميًا، يقدم الاقتصاد الأزرق حلًا ملموسًا. فمن خلال الإدارة المستدامة لمصايد الأسماك وتطوير قطاع تربية الأحياء المائية، يمكن لليمن أن يعزز إنتاجه الغذائي المحلي بشكل كبير، ما يوفر حلًا طويل الأمد ومكتفيًا ذاتيًا لأزمته الإنسانية المدمرة.
4. حماة الأعماق
الاقتصاد الأزرق لا يتعلق بالاستغلال فحسب، بل هو أيضًا التزام بالرعاية والمسؤولية. فبتبني مبادئه، ستلتزم اليمن بالإدارة المستدامة لمواردها البحرية، وحمايتها من آفات الصيد الجائر، والتلوث، وتدمير المواطن البيئية. وهذا ليس واجبًا بيئيًا فحسب، بل وعدٌ للأجيال القادمة بالحفاظ على إرثها الطبيعي.
5. استعادة المكانة على الساحة الدولية
يمكن لاقتصادٍ أزرق مزدهر أن يكون بطاقة اليمن للعودة إلى الواجهة الإقليمية والدولية. فبإحياء قطاعها البحري، يمكن لليمن أن تعيد ترسيخ نفسها كفاعل رئيسي في البحر الأحمر وبحر العرب، ما يعزز التعاون والتكامل الإقليميين، ويرفع من مكانتها الجيوسياسية.
ظلّ انعدام الأمن - المخاطر البحرية
تحوّل البحر الأحمر، وهو ممر مائي حيوي، إلى بؤرة لمخاوف أمنية بحرية متزايدة، بدءًا من القرصنة إلى التوترات الجيوسياسية الإقليمية، وصولاً إلى الهجمات الأخيرة على السفن. تُلقي هذه المخاطر بظلالها الطويلة على أنشطة الصيد والاستثمار البحري، وتخلق بيئة تشغيلية غير مستقرة وخطيرة.
في الجوهر، بينما يبدو الإمكان النظري للاقتصاد الأزرق في اليمن واسعًا كخطه الساحلي، فإن تحقيقه العملي ما يزال مقيّدًا بتشابك من العوائق الاجتماعية والسياسية والبنيوية. إن تجاوز هذه التحديات لا يُعد مهمة فنية فحسب، بل هو مشروع وطني شامل يتطلب إصلاحات جذرية في الحوكمة والأمن والانخراط الدولي. إنها رحلة تتطلب الشجاعة، والتعاون، وإرادة لا تتزعزع لتحقيق السلام.
الرحلة الاستراتيجية: خارطة طريق نحو المستقبل الأزرق لليمن
نظرًا للتحديات العميقة والمعقدة التي تحيط باليمن اليوم، لا يمكن لرحلة البلاد نحو اقتصاد أزرق مزدهر أن تكون قفزة مفاجئة، بل يجب أن تكون رحلة مخططة بدقة، تسير بخطوات مرحلية متأنية.
يجب أن تركز هذه الرحلة أولًا على وقف المعاناة الإنسانية واستعادة النظام الأساسي، وفي الوقت نفسه إرساء الأسس الصلبة التي يمكن أن يقوم عليها نمو مستدام على المدى الطويل.
تتوزع هذه الرؤية على ثلاث مراحل رئيسية:
-المرحلة الأولى: التثبيت والاستقرار الفوري (ما بعد الصراع)
-المرحلة الثانية: التعافي وبناء القدرات (المدى المتوسط)
-المرحلة الثالثة: النمو المستدام والتنويع (المدى الطويل)
-المرحلة الأولى: مرساة الاستقرار - ما بعد الصراع مباشرة
تمثل هذه المرحلة الأساس الأول لكل ما سيأتي بعدها، وهي تركز بالكامل على تحقيق السلام، واستعادة الحكم الفعّال، وتخفيف المعاناة الإنسانية العاجلة.
الخطوات الرئيسية:
فجر السلام:
هذا هو الشرط الأول والأساسي الذي لا يمكن تجاوزه.
يجب أن تتضافر كل الجهود الوطنية والدولية لتحقيق اتفاق سلام شامل، وتمكين حكومة موحدة وشرعية قادرة على بسط سلطتها الكاملة على الأراضي اليمنية.
من دون هذا الاستقرار، ستظل رؤى التنمية والاقتصاد الأزرق مجرد سراب بعيد.
مداواة جراح الإنسان:
يجب تلبية الاحتياجات العاجلة للشعب اليمني - من غذاء وماء ومأوى ورعاية صحية - وتوسيع نطاقها بشكل كبير.
فالسكان المستقرون والأصحاء هم رأس المال البشري الضروري لأي نشاط اقتصادي في المستقبل.
تأمين الممرات البحرية:
ينبغي التعاون الفعّال مع الشركاء الدوليين لتأمين المياه الإقليمية والممرات الملاحية الحيوية، خصوصًا في البحر الأحمر.
يشمل ذلك مكافحة القرصنة والصيد غير المشروع والأنشطة البحرية غير القانونية.
الأمن البحري هنا شرط أساسي لحماية الموارد البحرية ولتشجيع الاستثمار التجاري مستقبلاً.
رسم خريطة الأضرار:
يجب إجراء تقييم شامل ومنهجي للأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الساحلية - مثل الموانئ ومرافئ الصيد - والأنظمة البيئية البحرية.
وفي الوقت نفسه، البدء بالتخطيط الأولي لمشاريع الاقتصاد الأزرق، وتحديد المناطق ذات الأولوية والمشاريع السريعة التنفيذ التي يمكن إطلاقها فور استقرار الأوضاع.
دعم مجتمعات الصيد:
تقديم دعم عاجل للصيادين التقليديين، الذين غالبًا ما يكونون الأكثر تضررًا، بما في ذلك إصلاح القوارب والمعدات وتوفير بيئة صيد آمنة ومنظمة.
كما يجب التوعية بممارسات الصيد المستدام للحفاظ على الثروة السمكية.
المرحلة الثانية: المدّ الصاعد - التعافي وبناء القدرات
تبدأ هذه المرحلة بعد تحقيق مستوى معقول من الاستقرار السياسي والأمني، وتركز على إعادة الإعمار وتعزيز القدرات المؤسسية والبشرية اللازمة لإدارة الموارد البحرية بكفاءة واستدامة.
الإجراءات الرئيسية:
إعادة بناء الشرايين البحرية:
إعادة تأهيل وتحديث الموانئ الرئيسية مثل عدن والحديدة والمكلا، ومرافئ الصيد ومصانع معالجة الأسماك، وشبكات النقل المرتبطة بها.
هذا الاستثمار أساسي لتحفيز التجارة وتحسين جودة المنتجات السمكية وجذب الاستثمارات.
صياغة رؤية بحرية موحدة:
إعداد وتنفيذ خطط مكانية بحرية شاملة (Marine Spatial Plans)، وهي بمثابة خرائط استراتيجية لتنظيم استخدام المناطق البحرية — من الصيد والنقل إلى الحفظ البيئي وتربية الأحياء المائية.
تتطلب هذه الخطط تنسيقًا عابرًا للقطاعات بين الحكومة والسلطات المحلية وأصحاب المصلحة.
تمكين الحراس:
الاستثمار في تدريب الكوادر الحكومية المسؤولة عن إدارة الثروة السمكية والأمن البحري وحماية البيئة.
يشمل ذلك تطوير قدراتهم في جمع البيانات والمراقبة العلمية وإنفاذ القوانين ووضع السياسات.
إدارة المخزون السمكي:
تطبيق خطط قائمة على العلم لإدارة المصايد البحرية، بهدف منع الصيد الجائر وحماية المواطن البحرية وضمان استدامة المخزون السمكي.
كما يجب مكافحة الصيد غير المشروع وغير المبلغ عنه (IUU Fishing).
زراعة البحر:
التوسع في مشاريع الاستزراع السمكي المستدام بدعم فني وتمويلي للمجتمعات المحلية، ما يخلق فرص عمل جديدة ويقلل الضغط على المصايد الطبيعية.
المرحلة الثالثة: الإبحار الكامل — النمو المستدام والتنويع
عندما يتم تحقيق الاستقرار وإعادة بناء القدرات، يمكن لليمن أن ينطلق نحو مستقبل أزرق مزدهر، يعتمد على الابتكار والتنويع في القطاعات البحرية.
الأولويات:
تحويل الموانئ إلى مراكز بحرية حديثة:
تطوير البنية التحتية للموانئ لجعلها محاور إقليمية للنقل والتجارة والخدمات اللوجستية، مع تبسيط الإجراءات الجمركية وربطها بسلاسل الإمداد العالمية.
ما بعد الصيد - صناعات القيمة المضافة:
تجاوز مرحلة تصدير المواد الخام عبر تطوير صناعة معالجة وتعليب الأسماك، مما يخلق وظائف ماهرة ويزيد العائدات التصديرية.
سياحة ساحلية مستدامة:
بعد استتباب الأمن، يمكن تطوير قطاع السياحة البحرية والبيئية، من خلال إنشاء نُزُل بيئية ومراكز غوص وجولات ثقافية تُبرز جمال الساحل اليمني وثقافته، مع الحفاظ على البيئة.
تسخير الرياح والأمواج:
استكشاف إمكانيات الطاقة البحرية المتجددة مثل طاقة الرياح والمدّ، لتوفير مصادر طاقة نظيفة للمناطق الساحلية، وجعل اليمن جزءًا من التحول العالمي نحو الطاقة الخضراء.
ثقافة الابتكار:
إنشاء مراكز أبحاث بحرية لتشجيع الابتكار، ومراقبة صحة النظم البيئية، وتطوير قطاعات بحرية جديدة مستدامة.
هذا يضمن بقاء الاقتصاد الأزرق اليمني مرنًا ومتطورًا ومتأقلمًا مع التغيرات البيئية والتكنولوجية.
البحر كمنقذ: رؤية الأمل في الأفق اليمني
بالنسبة لليمن، لا يُعد الاقتصاد الأزرق مجرد استراتيجية اقتصادية، بل هو منارة أمل لبلد أنهكته الحرب.
إنه تصور لمستقبل يصبح فيه البحر مصدرًا للسلام والرخاء والاستقرار، لا ساحة للصراع والحرمان.
قد تكون الرحلة طويلة وصعبة، والتحديات جسيمة، لكن بإرادة حقيقية نحو السلام، وبخطة واضحة المراحل، وبدعم ثابت من المجتمع الدولي،
يمكن لليمن أن يُسخّر قوّة بحاره ليعيد ميلاد نفسه من جديد.
البحر الذي غذّى اليمنيين لقرون، قد يكون اليوم مفتاح خلاصهم ومستقبلهم.