مع تطاول أمد حرب السودان المستعرة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" لأكثر من 30 شهراً تكاثرت الميليشيات بمختلف تسمياتها وتصنيفاتها من قبلية وعرقية أيديولوجية حتى تجاوز عددها الـ100 ميليشيا تتوزع ولاءاتها بين طرفي النزاع، وأسهمت بصورة كبيرة في انتشار العنف وممارسة الانتهاكات على نطاق واسع ضد المدنيين في مناطق الصراع.
وعلى رغم تجذر ظاهرة الميليشيات في تاريخ الصراعات في البلاد منذ ما قبل الاستقلال، لكنها اليوم تحمل أبعاداً أكثر خطراً على بقاء الدولة نفسها من خلال تأثيرها في استمرار الحرب أو إيقافها، فإلى أي مدى ينظر المحللون والمراقبون لوضعية هذه الميليشيات وأثرها في استقرار البلاد ومستقبلها؟
تجييش مفتوح
يقول رئيس مجلس أمناء "هيئة محامي دارفور" المكلف، الصادق علي حسن "في حقيقة الأمر إن تكوين الميليشيات المسلحة بدأ مع مجيء النظام السابق عام 1989 من خلال إنشاء المراحيل والمجموعات القبلية تحت غطاء القوات الصديقة بالاعتماد على العرب الرحل في مناطق التماس لمحاربة ’الحركة الشعبية لتحرير السودان‘ بقيادة جون قرنق، وتم تقنين أوضاع تلك القوات بمنح منسوبيها رتباً عسكرية وتمليكهم البنادق التي أصبحت تستخدم لأغراض النظام وفي الصراعات المحلية في ما بينها وبين المجموعات المستقرة على الأرض والموارد".
وتابع "أما تكوين الحركات المسلحة في دارفور فبدأ عام 2003 مع اندلاع الحرب في هذا الإقليم، واعتمد النظام السابق على المجموعات العشائرية لمحاربة تلك الحركات بإنشاء قوات حرس الحدود بقيادة موسى هلال، وكان محمد حمدان دقلو (حميدتي) آنذاك أحد جنودها، وبعد اختلاف النظام مع هلال استخدم (حميدتي) بدلاً منه، وسن لقواته (الدعم السريع) قانوناً عام 2017 لتصبح قوة نظامية ضمن مهامها الحماية الداخلية والخارجية للبلاد، إضافة إلى مهام أخرى غير محددة، حتى باتت قوة عسكرية تتفوق على الجيش في الأسلحة والعتاد الحربي والتجييش المفتوح والارتباط بالخارج".
وأرجع تزايد الميليشيات إلى هشاشة الدولة السودانية وإساءة استغلال السلطة، فلو كانت هناك قوى سياسية حقيقية في البلاد وكان الشعب السوداني يمارس الرقابة على الدولة لما كانت هناك ميليشيات، على حد قوله، مضيفاً أنه "لا توجد حالياً أي خطط استراتيجية للحد من هذه الميليشيات، إذ تجاوزت الأوضاع في الدولة الموروث التقليدي، ولم يتعظ الجيش من إنشاء الميليشيات المسلحة في الوسط والشمال والشرق، فضلاً عن تزايدها في دارفور وكردفان، حتى باتت البلاد تعج بالميليشيات الجهوية والقبلية التي لا حصر لها".
ولفت إلى أنه في ظل هذا الواقع المؤسف حقاً يصعب الحديث عن إنهاء هذه الظواهر التي حلت محل التنظيمات السياسية والأحزاب وسدت الفراغ السياسي، لذلك وصلت البلاد إلى مرحلة الفوضى المشهودة والمستقبل المجهول.
وزاد "في نظري أن المجموعات المسلحة ومن ضمنها "الدعم السريع" لا تملك أهدافاً بل صارت أقرب لتحالفات المصالح ولا يوجد بينها من يطرح حلولاً مبنية على تصورات مدروسة، لذا لا توجد في البلاد جهة أو إقليم يصلحان لمشروع دولة مستقرة، مما يجعل النموذج السوداني أقرب لنموذج حفتر في ليبيا، ولكن يمتاز عليه بالتعدد".
وتوقع رئيس مجلس أمناء "هيئة محامي دارفور" المكلف، أن يكون هناك مركز لـ"الدعم السريع" وداخله مركز لـ"حركة تحرير السودان" بقيادة عبدالواحد محمد نور في وسط دارفور، وقد يكون وضعه أشبه بدولة الفاتيكان في روما، إضافة إلى مركز للحركة الشعبية - شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو في جنوب كردفان، فضلاً عن مركز الشمال والوسط الذي يقوده الجيش، وفي داخله مراكز لكل الجهات الموالية له، في فوضى لا مثيل لها في العالم سيكون من نتائجها تهديد الأمن والسلم الدوليين والتدخل المحتمل للمجتمع الدولي، لكن ماذا يفعل بعد فوات الأوان، وتجربتا ليبيا والصومال ماثلتان؟
مكاسب ومغانم
في السياق أوضح المتخصص في الاقتصاد السياسي حسن بشير محمد نور، أن "تكاثر الميليشيات يرجع لأسباب عديدة أولها فشل الدولة، فأية ظواهر مسلحة خارج الأطر الرسمية والقانونية تعني خروجها على القانون في المقام الأول، وأيضاً ضعف المؤسسات السائدة في البلاد، وهو مؤشر خطر يؤكد أن هناك ضعفاً يعتري المؤسسات العسكرية والأمنية، لأن هذه التشكيلات طابعها عسكري ويهدد الأمن بشكل أو بآخر، فضلاً عن انتشار السلاح خارج أطر الدولة".
وأضاف، "يلحظ أنه عند اندلاع الحرب وجد الجيش نفسه أمام مواجهة قوات (الدعم السريع) في جوانب خاصة بحرب المدن وحرب المشاة التي عانى فيها الجيش أشد المعاناة بسبب نقص قوات المشاة لديه، مما جعله يستعين بالميليشيات لسد هذا النقص، مما خلق الذرائع أمام الأشخاص الذين يريدون تشكيل ميليشيات خاصة بهم لتحقيق أطماع شخصية وأهداف محددة".
وأردف، "منذ أمد بعيد نجد أن الأشخاص الذين يحملون السلاح، والذين يشكلون حركات مسلحة يحصلون على غنائم منها مسألة المشاركة في السلطة، وكما هو معلوم فإن الأخيرة واحدة من الأدوات والوسائل الرئيسة للحصول على ثروات بحسب طبيعة الدولة السودانية، لذا أنشئت هذه الميليشيات للبحث عن مكاسب سياسية ومغانم في السلطة والنفوذ".
ولفت محمد نور إلى أن ضعف الدولة ومؤسساتها، فضلاً عن انسحاب الجيش من نطاق واسع من الأراضي، واختفاء الشرطة والأجهزة الأمنية من الخرطوم وغيرها من المدن بعد اندلاع الحرب مباشرة، دفع المكونات القبلية والجهوية إلى تكوين ميليشيات لحماية نفسها.
وواصل "كذلك من الجوانب التي شجعت على تشكيل هذه الميليشيات دعوة الجيش ومؤيديه إلى الاستنفار الشعبي لمواجهة (الدعم السريع)، وعندما تم ذلك وحمل كثير من الأشخاص السلاح في أياديهم نشأت ضرورة لتقنين حمل السلاح بصورة أو بأخرى، أو كما يقال باللغة الدارجة السودانية (فرز الكيمان) حتى يحصلوا على مكاسب، لكن في الوقت نفسه نجد أن بعض تشكيلات هذه الميليشيات كانت موجودة منذ النظام السابق، مثل كتائب الإسلاميين وأشهرها كتيبة البراء بن مالك، وهي كتيبة لها أهداف أيديولوجية تتمثل في الوصول إلى السلطة باعتبارها أداة للتيار الإسلامي".
وزاد "هكذا انتشرت الميليشيات على نطاق واسع في البلاد، منها الأيديولوجية الإسلاموية والجهوية والقبلية، حتى إن من بينها ميليشيات لها أذرع خارجية، لكن مسألة السيطرة على هذه الميليشيات وعلى السلاح عموماً تعتمد على استعادة الدولة والمؤسسات من حال الاختطاف، وسن تشريعات تقضي بأن يكون امتلاك السلاح حصرياً في يد الدولة، وهو أمر يتطلب سلطة قوية، ومن المؤسف أنه لا توجد حتى الآن سلطة قوية، ولا توجد مؤشرات إلى وجودها في الأمد القصير".
ومضى المتخصص في الاقتصاد السياسي بالقول، "في تصوري أن أزمة الميليشيات هي واحدة من أزمات الدولة السودانية الكبيرة التي ستواجه أية حكومة مدنية أو حكومة ذات قبول داخلي وخارجي في المستقبل، بالتالي فإنه في حال توصل إلى سلام يجب أن تتضمن التسوية الخاصة بوقف الحرب بنوداً تشير إلى حصر السلاح في يد الدولة، والشروع في تفكيك الميليشيات وتسليم جميع أسلحتها بآليات محددة، فضلاً عن الدمج والتسريح وفق النظم المعمول به في مثل هذه الأشكال".
عبء ثقيل
من جانبه قال الناطق باسم حركة "جيش تحرير السودان"، محمد عبدالرحمن الناير "للأسف أصبح انتشار المجموعات المسلحة حقيقة، وهنالك أسباب عدة لظهورها، أهمها أن النظام السابق والمجتمع الإقليمي والدولي اعتقدوا أن إضعاف الحركات الرئيسة التي رفضت الحلول الجزئية ومقايضة الحقوق بالمناصب يكمن في استقطاب واستمالة قيادات وأفراد بداخلها، وبدأ ذلك منذ مؤتمر حسكنيتة عام 2005، ولاحقاً تكاثرت المجموعات المنشقة بحثاً عن المناصب والامتيازات، إذ أصبح الانشقاق والتوقيع على اتفاق مع النظام أقرب الطرق للحصول على المناصب، لكن ظلت الحركات الرئيسة صامدة وثابتة في مواقفها ولم تؤثر عليها هذه الانشقاقات".
واستطرد "أيضاً هناك آخرون كانوا يعتقدون أن عملية النضال المسلح عبارة عن فترة زمنية وجيزة (مقطوعية) وبعدها سيحصلون على النتائج المرجوة، لكن مع تطاول أمد الحرب أصابهم اليأس ولم يحتملوا ظروف وأوضاع النضال ففضلوا النزول في أقرب محطة تفاوض مع النظام، وهناك مجموعة ثالثة انضمت للعمل المسلح من باب العاطفة الجهوية أو العرقية وليس عن اقتناع كامل بالمشروع، وهؤلاء لم يصمدوا طويلاً في ظل الانتكاسات والخسائر العسكرية التي تعرضت لها الحركات في مسيرتها النضالية".
وأشار الناير إلى أنه بعد حرب 15 أبريل/ نيسان عمدت سلطة بورتسودان إلى تكوين ميليشيات جديدة تضاف إلى ميليشيات الحركة الإسلامية القائمة مثل "الدفاع الشعبي" و"كتائب البراء بن مالك" و"البرق الخاطف" و"القعقاع" وغيرها، فظهرت ميليشيات "المقاومة الشعبية" و"درع السودان". وحتى الحركات المتحالفة مع مجموعة بورتسودان كونت ميليشيات تابعة لها ذات عمق عرقي مثل ميليشيات "أرت أرت" وغيرها، وكذلك "الدعم السريع" لديه ميليشيات قاتلت معه، وهي ذات طابع مصلحي مثل ميليشيات "أم باغة" المتهمة بارتكاب انتهاكات القتل والنهب وما يسمى "الشفشفة".
وبين أنه "ليس بالسهولة ضبط هذه الميليشيات لأنها لا تخضع إلا لسلطة قادتها المباشرين وليست المجموعات التي تحالفت معها، أيضاً ليس لديها مشاريع أو أهداف سياسية، وهي ميليشيات إجرامية أصبحت عبئاً على الذين تقاتل معهم، وأيضاً على حاضر ومستقبل السودان، فمعظم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها أطراف الحرب كانت على يد هذه الميليشيات الحليفة".
وختم الناطق باسم حركة "جيش تحرير السودان"، قائلاً "بالفعل بات السودان بلد الميليشيات بامتياز، وما يسمى الجيش هو أبو الميليشيات وصانعها عبر تاريخه الطويل بواسطة جهاز استخباراته، فهو الذي صنع القوات الصديقة في جنوب السودان، وميليشيات التوم النور دلدوم، فاولينو ماتيب، قوات سوم، كافي طيار البدين، ميليشيات جاو، ميليشيات المراحيل، الدفاع الشعبي، ميليشيات الجنجويد التي تم تغيير اسمها إلى حرس الحدود، الاحتياط المركزي، الدعم السريع، والآن ميليشيات البراء بن مالك، القعقاع، البرق الخاطف، درع السودان، ميليشيات المقاومة الشعبية، وغيرها من التشكيلات الميليشوية".
انقسامات وصراعات
في سياق متصل، قال القيادي في "حركة تحرير السودان"، محمد حارن "في تقديري أن ما يشاع بأن عدد الميليشيات في السودان تجاوز الـ100 أمر مبالغ فيه، صحيح كانت هناك انقسامات وسط الحركات المسلحة وغيرها من قبل نظام المؤتمر الوطني، لكن سرعان ما تلاشت الحركات المنشقة وبقيت الحركات القوية، وهي الآن طرف أصيل في العملية السلمية، بينما هناك أخريات خارج هذه الدائرة وهي قليلة جداً".
وأردف حارن "مشكلة تزايد وتنامي المجموعات المسلحة يرجع إلى الحكومات السابقة لأنها لم تؤسس البلاد بصورة جيدة، بل خلقت صراعات بين مكونات المجتمع، لذا أحس كثير من المكونات بالظلم ورفعوا السلاح من أجل مطالب، وفي نظري أنه في حال أسست الدولة بصورة جيدة وكونت حكومة مؤسسات وتحققت العدالة فإن كل الظواهر السلبية ستنتهي".
وزاد "طبعاً هشاشه الدولة أهم عامل لظهور هذه الحركات التي تشكلت لأسباب مطلبية تمثلت في عدم عدالة توزيع الحقوق، وعدم وجود دولة حقيقية، لكن متى أسست دولة تقوم بواجباتها تجاه المواطن واعتمدت العدالة في توزيع الثروة والسلطة، فإن كل هذه المظاهر ستختفي".
(اندبندنت عربية)