في مشهد غير مألوف تصاعدت في الآونة الأخيرة أصوات تدعو إلى تجنيد النساء ضمن صفوف الجيش السوداني لمواجهة "الدعم السريع"، سواء في ساحات القتال أو في مهام الدعم اللوجيستي والإسناد، وبينما يرى بعض السودانيين في هذه الدعوات تعبيراً عن تعبئة وطنية شاملة في وجه التهديدات، يراها آخرون خطوة مثيرة للجدل، تمس المرأة ودورها الاجتماعي التقليدي.
في خضم هذا الجدل، يبرز السؤال الأهم، هل تمثل مشاركة النساء في الحرب تحولاً حقيقياً في موقعهن داخل المجتمع السوداني، أم أنها مجرد استجابة ظرفية لمرحلة استثنائية؟
ضرورة دفاعية
يقول الباحث في الشؤون العسكرية عمر أرباب "جاءت فكرة تجنيد النساء للمشاركة في القتال الدائر بين الجيش و’الدعم السريع‘ في الأساس نتيجة للحاجة العسكرية التي فرضتها طبيعة الحرب الحالية، فالقوات النظامية تتحرك في مساحات شاسعة وتحتاج إلى أعداد كبيرة من المقاتلين لتأمين المناطق والمدن، خصوصاً بعد الجرائم والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها ’الدعم السريع‘ في المناطق التي سيطرت عليها".
وأوضح أرباب أن "الاستعانة بالنساء جاءت كضرورة دفاعية بحتة، وليست ضمن استراتيجية هجومية، والهدف منها هو المشاركة في عمليات الدفاع عن النفس وحماية المدن في حال تعرضت لأي تهديد، مما يغير موازين القوى في خطوط الدفاع لا في العمليات الهجومية"، واستطرد "عمليات الدفاع عادة تكون في الخطوط الخلفية، وليس في الجبهات المتقدمة، ويمكن أن يجري توزيع النساء في مهام الدعم أو في نقاط الحماية الخلفية، بينما يتولى المقاتلون العمليات القتالية المباشرة".
وأشار إلى أن "القوات المسلحة السودانية تمتلك خبرة سابقة في تجنيد النساء، إذ ضمت بعض وحداتها كوادر نسائية تلقت تدريباً عسكرياً كاملاً، وفي تقديري أن مشاركة النساء في حرب المدن يمكن أن تكون مفيدة في مجالات الدعم اللوجيستي وإعداد الطعام والإسناد الميداني، إضافة إلى تنفيذ مهام قتالية خفيفة تتناسب مع طبيعة المرأة".
ومضى الباحث في الشؤون العسكرية قائلاً "التجنيد الرسمي أكثر كفاءة من التطوع، لأن المجند يتلقى تدريباً متكاملاً يجعله يؤدي مهامه باحترافية، بعكس المتطوع الذي يملك تدريباً محدوداً وخبرة ميدانية أقل، لذلك أي توجه لتجنيد النساء يجب أن يكون منظماً ومؤسساً لضمان الفاعلية والانضباط".
اختبار حقيقي
المتخصصة في قضايا النوع الاجتماعي سمية الطاهر قالت إن "دعوات تجنيد النساء في الحرب الحالية تضع المجتمع السوداني أمام اختبار حقيقي لقيمه وتصوراته عن أدوار المرأة، فالسودان تاريخياً مجتمع محافظ ارتبطت فيه صورة المرأة بالعطاء والرعاية، وليس بالقتال وحمل السلاح، لذلك ظهور مثل هذه الدعوات فجأة وسط سياق حرب عنيفة ترك أثراً نفسياً واجتماعياً عميقاً، وأثار انقساماً واضحاً في الرأي العام".
وذكرت أن "جزءاً كبيراً من هذا الجدل نابع من أن المجتمع لم يمهد بعد لتقبل المرأة في أدوار عسكرية، فهناك من يرى أن مشاركتها في القتال تمس القيم الثقافية والدينية، بينما يرى آخرون أن الدفاع عن النفس والوطن لا يرتبط بنوع أو جنس، بل هو مسؤولية جماعية تفرضها المرحلة".
وأردفت الطاهر "هذه الدعوات لم تأتِ من فراغ، بل من شعور عميق بالخطر والرغبة في حماية المدن والبيوت بعد الانتهاكات الواسعة التي شهدتها مناطق عدة"، وواصلت "في أوقات الحروب تتغير الأدوار الاجتماعية قسراً، وتنتقل المرأة من الفضاء الخاص إلى المجال العام. اليوم، النساء يقمن بأدوار في الإسعاف الميداني والإمداد، وحتى في الدفاع داخل الأحياء، وهذا التحول لا يمكن تجاهله أو التقليل من أثره"، ولفتت إلى أن "هناك بعداً نفسياً حساساً في هذه المسألة، فكثير من النساء يدخلن في العمل الميداني بدافع الغضب أو الفقد أو الرغبة في الانتقام بعد ما شهدنه من فظائع، وهذا أمر يحتاج إلى وعي مجتمعي وإرشاد نفسي حتى لا تتحول المشاركة إلى عبء عاطفي طويل الأمد".
وختمت المتخصصة في قضايا النوع الاجتماعي قائلة "من المهم أن نفرق بين تمكين النساء في المجال العسكري كخيار استراتيجي منظم، والزج بهن في المعارك بدافع العاطفة أو الفوضى، فمشاركة النساء يمكن أن تكون فاعلة ومؤثرة، لكن بشرط أن تبنى على التدريب والاختيار الحر والحماية القانونية، وإلا سنجد أنفسنا أمام مشهد يكرس العنف لا المساواة، ويدفع النساء إلى خطوط النار من دون ضمانات حقيقية لسلامتهن أو لكرامتهن".
مساءلة قانونية
من جانبه أفاد القانوني نادر الماحي بقوله "أي نقاش حول تجنيد النساء لا يمكن فصله عن الإطار القانوني الدولي والوطني لحماية المدنيين وحقوق الإنسان، ولا بد من تأكيد مبدأين أساسيين وهما حرية الاختيار وحماية الضعفاء، فتجنيد بالغات راغبات طوعاً وموافاتهن للتدريب والحقوق المشروعة يختلف جذرياً عن الزج بالنساء بقوة أو تحت ضغوط اجتماعية أو أمنية".
وزاد الماحي "من منظور القانون الدولي الإنساني على الأطراف المتحاربة التمييز بين المقاتلين والمدنيين. إذا صار هناك تجنيد منظم فهؤلاء النساء يعاملن كمقاتلات ولهن واجبات وحقوق، لكن مع توفر ضمانات قانونية خاصة: تسجيل واضح، وتدريب موثق، وحقوق في المعالجة الطبية، وحقوق في حال الأسر كالحماية ضد الانتهاكات الجنسية والتعذيب، فأي إخفاق في هذه الضمانات يعرض الدولة ومكوناتها للمساءلة القانونية"، وتابع "مسألة السن مهمة جداً، فالقوانين الدولية واتفاقات حماية الأطفال تمنع تجنيد أو إشراك أفراد دون 18 سنة في الأعمال القتالية، كذلك فإن الاتفاقات الدولية لحقوق المرأة مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة تقتضي بعدم تمييز في المزايا والحماية، لكن لا تمنع مشاركة المرأة شرعية، بل تشترط حمايتها وكرامتها. وعلى المستوى الوطني يجب أن تقارن أي خطوات للتجنيد مع الدستور والقوانين العسكرية السودانية لضمان قانونية الإجراءات".
ومضى القانوني في حديثه "بالنسبة إلى المساءلة عن الجرائم مثل الجرائم الجنسية أو استهداف المدنيين، فوجود مجندات أو مقاتلات لا يعفي الأطراف من الالتزام بتحقيقات فعالة ومحاكمات عادلة، كذلك يجب أن تكون آليات الشكاوى متاحة للنساء داخل التشكيلات العسكرية مع حماية كاملة للمتقدمات بشكاوى ضد الانتهاكات".
تجارب إفريقية
هبة كمال ناشطة نسوية ومتخصصة في العمل المجتمعي قالت "بعض الدول الإفريقية شهد مشاركة النساء في النزاعات المسلحة، لكن بدرجات وأساليب مختلفة، ففي رواندا بعد الإبادة الجماعية انتظمت النساء في الدفاع عن المجتمعات المحلية، مع التركيز على التدريب والحماية القانونية، مما أسهم لاحقاً في تعزيز دورهن السياسي والمدني بعد الحرب، أما في إريتريا وإثيوبيا فكانت المشاركة العسكرية للنساء أكبر، شملت القتال المباشر، لكن صاحبتها تحديات جسيمة تتعلق بالتدريب المحدود والتعرض للعنف وغياب برامج حماية واضحة بعد انتهاء النزاع".
وأضافت "التجارب الإفريقية تظهر أن دمج النساء في الدفاع عن المجتمعات ممكن وفعال، لكن النجاح يعتمد على التدريب المنظم والدعم اللوجيستي والحماية القانونية، وفي نظري أي تجاهل لهذه العناصر يؤدي إلى أعباء نفسية وجسدية كبيرة ويقلل من فاعلية مشاركة النساء في هذه الحرب، وعلينا أن نتعلم من هذه التجارب قبل اتخاذ أي خطوات واسعة لتجنيد النساء، لضمان أن مشاركتهن تكون آمنة ومؤثرة، وليس مجرد حضور رمزي".
وأوضحت كمال قائلة "الاستفادة من النساء في الدفاع والدعم اللوجيستي أكثر أماناً وفاعلية من الزج بهن في العمليات الهجومية المباشرة، وأن التجارب الإفريقية تثبت أن الدعم النفسي والقانوني ضروري لحماية حقوقهن بعد انتهاء النزاع"، واستطردت "مشاركة النساء في الدفاع عن المدن والدعم اللوجيستي قد تحدث تحولاً طويل الأمد في تصور المجتمع السوداني لأدوار المرأة، فبعد انتهاء الحرب النساء اللاتي اكتسبن خبرة ميدانية ومهارات قيادية قد يجدن أنفسهن أكثر قدرة على المشاركة في الحياة العامة والسياسية والعمل المدني. هذا التغيير ليس مجرد تأثير تكتيكي للحرب، بل فرصة لإعادة تشكيل أدوار اجتماعية كانت محدودة تاريخياً".
وأنهت الناشطة النسوية حديثها بقولها، "مع ذلك، هناك تحديات كبيرة، مثل مقاومة بعض أطراف المجتمع الأدوار غير التقليدية، وصعوبات إعادة الإدماج النفسي والاجتماعي، فنجاح التأثيرات المستقبلية يعتمد على توفير برامج دعم وتعليم وإرشاد للنساء بعد انتهاء النزاع، لضمان أن التجربة تتحول إلى تمكين حقيقي لا عبء طويل الأمد".
(اندبندنت عربية)