6 ديسمبر 2025
26 نوفمبر 2025
يمن فريدم-منى عبدالفتاح
Getty


قدمت الولايات المتحدة وثيقة دبلوماسية إلى طرفي النزاع في السودان، الجيش وقوات "الدعم السريع" تحت عنوان "هيكل إعلان مبادئ لهدنة إنسانية على جميع التراب السوداني"، وأوضح مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا مسعد بولس مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري أن طرفي الحرب رحبا مبدئياً بالمقترح الإنساني، إلا أنه أكد أنهما يدرسان بنود الهدنة، باعتبارها اتفاقاً يشمل آليات المراقبة والتنفيذ والجوانب الفنية واللوجستية.

وجاء تقديم هذه الورقة عبر قنوات رسمية وبصورة منفصلة لكل طرف، في محاولة لإعادة هندسة مسار التهدئة بعد أشهر من التصعيد المتسارع على الجبهات المختلفة، وتمثل هذه المبادرة أحدث تحرك لواشنطن في مسار متعدد الأطراف، ضمن "الرباعية الدولية" المعنية بالملف السوداني المكونة إضافة إلى واشنطن من الرياض وأبو ظبي والقاهرة.

وجاء طرح الوثيقة بعد التطورات الكبيرة خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عقب حصار قوات "الدعم السريع" لمدينة الفاشر، دام نحو 500 يوم، مما أدى إلى تعميق الانهيار الأمني واتساع رقعة الكارثة الإنسانية، وتزامن ذلك مع تقارير متواترة من الأمم المتحدة ومنظمات دولية عن انتهاكات جسيمة بحق المدنيين في دارفور، مما دفع واشنطن إلى إعادة تفعيل أدواتها الدبلوماسية ومحاولة كبح الانزلاق نحو مراحل أكثر دموية.

وأوضح مسعد أن الورقة تأتي في إطار تفاؤل حذر بإمكان التوصل إلى تفاهم يقود لاحقاً إلى هدنة شاملة، لكنه شدد على أن واشنطن لا ترعى محادثات مباشرة بين الطرفين، بل تعتمد نهجاً تدريجياً يقوم على بناء الثقة وتوفير بيئة تفاوضية غير مفروضة، تمهيداً لبلورة اتفاق أوسع في المستقبل، وبحسب ما أورد، أن هذا النهج يعكس رغبة أميركية في الحفاظ على مسافة واحدة من الطرفين، بهدف تجنب أي انطباع بانحياز قد يقوض فرص قبول المقترح.

وتحمل الورقة الأمريكية آمالاً في أن تشكل بوابة أولى لوقف إطلاق النار، عبر هيكل مبادئ يركز على فصل القوات وضمان انسياب المساعدات الإنسانية من دون قيود وإنشاء آليات مراقبة مشتركة تقلل من احتمالات الانتهاكات، ويرى مراقبون أن نجاح المبادرة رهن بمدى التزام الطرفين على الأرض، وبوجود ضمانات دولية فاعلة قادرة على حماية المدنيين واستدامة الهدوء النسبي الذي يمكن أن يولد من هذه الهدنة الإنسانية المقترحة.

ورحب السودانيون بإبداء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب رغبته في الانضمام إلى معالجة الأزمة السودانية وتحقيق السلام، إثر طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال مؤتمر الاستثمار السعودي-الأمريكي الذي عقد في واشنطن الأسبوع الماضي.

بنود رئيسة

تتألف الورقة الأمريكية من أربعة بنود رئيسة، الأول تثبيت وحدة السودان وسيادته كمرتكز أعلى للحل، وتنطلق الوثيقة من مبدأ صلب يعدّ وحدة التراب السوداني وسيادة الدولة إطاراً غير قابل للمساومة، ليكون مدخلاً لأية هدنة أو تسوية لاحقة، وهذا التأكيد يحمل دلالتين، الأولى تحييد أية نزعات انفصالية أو مشاريع أمر واقع قد تنتج من خطوط التماس العسكرية، والثانية إعادة الاعتبار للدولة السودانية ككيان جامع ينبغي أن يحافظ على بنيته المؤسسية مهما اشتدت الحرب.

والبند الثاني هو التزام حسن النوايا وبناء الثقة بين الطرفين، وتقر الورقة أن الطريق إلى هدنة مستقرة يمر عبر تعهد متبادل بحسن النوايا، وهو مفهوم يتجاوز لغة البيانات ليؤسس سلوكاً عملياً يحد من الخطاب التحريضي ويقلل من العمليات الهجومية ويمهد لإجراءات فنية لاحقة مثل تبادل المعلومات الميدانية أو فتح ممرات إنسانية، وهذا البند يشكل "المزاج التمهيدي" الذي تحتاج إليه أية عملية سياسية.

والبند الثالث، تحديد مدة زمنية واضحة للهدنة وآليات تنفيذها، وتقترح الوثيقة وضع سقف زمني دقيق لبداية الهدنة ونهايتها، بما يمنع التفسيرات المتضاربة ويتيح قياس الالتزام، وتشدد على إنشاء "آليات تنفيذ" تشمل إجراءات وقف إطلاق النار وآليات البلاغات ونقاط اتصال مشتركة مع الأطراف الدولية، مما يحول الهدنة من تعهد نظري إلى إطار قابل للتطبيق، وكذلك تقترح المبادرة تشكيل لجنة تنسيق مشتركة تضم ممثلين من الطرفين وجهات دولية، تكون مهمتها متابعة التنفيذ وتلقي التقارير الميدانية ورفع تقييم دوري لمستوى الالتزام، بما يوفر قناة اتصال عملية ويقوي الرقابة على الأرض.

أما البند الرابع، ففصل القوات واحتواء الانتهاكات المحتملة وضمان المساعدات. ويمثل هذا البند جوهر المقترح الأمريكي، إذ تدعو الوثيقة إلى فصل القوات في جميع الجبهات عبر تحديد مسافات عازلة وتجميد التحركات الهجومية والسماح بمراقبة ميدانية، كما تنص على بروتوكول لاحتواء الانتهاكات الصغيرة قبل تفاقمها، عبر لجان تحكيم ميدانية وتدخلات سريعة من الجهات الضامنة، وكذلك ضمان وصول إنساني آمن وغير مقيد، إذ تضع الورقة البعد الإنساني في صدارة أهدافها، مطالبة الطرفين بتوفير ممرات مفتوحة للمساعدات في كل الولايات، خصوصاً المتضررة في دارفور والفاشر، مع منع احتجاز الشحنات أو تقييد حركة فرق الإغاثة. ويُعدّ هذا الشرط أساسياً في ظل تقارير عن انتهاكات واسعة ضد المدنيين.

وتأتي هذه الورقة في سياق تحرك دبلوماسي واسع تقوده دول "الرباعية"، وسط تفاؤل حذر بإمكان تحويل الهدنة إلى مسار سياسي، شرط توافر التزام ميداني حقيقي وضمانات دولية رادعة لأي خرق يهدد المدنيين ويقوض فرص التسوية.

مبررات الهجوم

يستند هجوم قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان على الورقة الأميركية إلى حزمة من المبررات السياسية والأمنية، مما يجعل رفضها جزءاً من طبيعة الصراع وتموضع الأطراف داخله، فالوثيقة قدمت في ظرف ميداني حساس شهد خلاله الجيش تراجعاً ملحوظاً على محاور عدة، ولا سيما في دارفور وكردفان، مما جعل القيادة العسكرية تنظر إليها على أنها مبادرة تقنن توازنات الأمر الواقع بدلاً من أن تعيد ترميم معادلة القوة التقليدية في الدولة السودانية.

ومن وجهة نظر البرهان، تحمل الورقة طابعاً "بنيوياً" يمس جوهر مؤسسات الدولة، إذ يشير إلى أنها تلغي فعلياً وجود القوات المسلحة وتطالب بحل الأجهزة الأمنية بينما تبقي قوات "الدعم السريع" في مواقع نفوذها الحالية، وهذا الترتيب، في تصوره، يرقى إلى إعادة هندسة المشهد الأمني على نحو يهمش الجيش بوصفه المؤسسة التاريخية، ويمنح "الدعم السريع" وضعاً تفاوضياً وشرعياً موازياً له، لذلك يعدّ البرهان المبادرة أقرب إلى "صيغة فرض خارجي" منها إلى وساطة محايدة.

ويتهم البرهان المبعوث الأمريكي بتبني خطاب يميل لمصلحة "الدعم السريع"، سواء عبر اتهام الحكومة بعرقلة المساعدات أو الإيحاء باستخدام أسلحة محظورة، وهي اتهامات يراها الجيش محاولة لخلق سردية دولية تضعف شرعيته وتدين سلوكه العسكري. ويذهب البرهان أبعد من ذلك حين يشير إلى أن بولس يردد ما يعدّه "أبواق تحالف ’صمود‘ و’الدعم السريع‘".

ويضاف إلى ذلك أن الورقة الأمريكية طرحت عملية سياسية شاملة تعيد السودان لصيغة قريبة من ترتيب "الشراكة الانتقالية" قبل انقلاب أكتوبر عام 2021، بما في ذلك احتمال عودة فاعلين سياسيين وعسكريين مثل عبدالله حمدوك ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، مما يرفضه البرهان رفضاً قاطعاً، فقبول هذا المسار، في تقديره، يعني الاعتراف بـ"الدعم السريع" كطرف مكافئ، وإفراغ أي وضع عسكري محتمل للجيش من مضمونه السياسي.

ويعول البرهان على ضغوط أمريكية مختلفة، من بينها احتمال تصنيف "الدعم السريع" منظمة إرهابية لإعادة هندسة ميزان القوى قبل الدخول في أية مفاوضات، لذا يرى أن الورقة المطروحة تتجاهل هذا المسار وتقدم "حلاً سياسياً مبكراً" قبل تثبيت الوقائع العسكرية، مما يجعلها، في نظره، مقترحاً غير قابل للقبول ومشابهاً لمحاولة فرض تسوية تهدد وحدة السودان ولا تعكس مصالح الدولة المركزية.

مقترح بديل

واقترح البرهان حلاً تفاوضياً بديلاً للورقة الأمريكية يقوم في جوهره على إعادة تعريف مسار التسوية من منظور الدولة المركزية، عبر ترتيب أولويات العملية السياسية بما يضمن من وجهة نظره استعادة الشرعية الميدانية والمؤسسية قبل الدخول في أية مفاوضات شاملة، ويظهر هذا التوجه بوضوح في خريطة الطريق التي قدمتها الحكومة رداً على الورقتين التفاوضيتين اللتين طرحتا عبر الوساطة الدولية، والتي ترتكز على "أن وقف الحرب يبدأ بوقف تمدد ’الدعم السريع‘، لا بموازنة نفوذه مع نفوذ الجيش".

وتقوم خريطة الطريق على أربع مراحل متتالية، أولاً، الانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها قوات "الدعم السريع" بعد منبر جدة، ويشترط البرهان أن تعود "الدعم السريع" لخطوط ما قبل انهيار ترتيبات جدة، باعتبار أن التوسع العسكري اللاحق جرى وفق "أمر واقع" لا يمكن تحويله إلى مكسب سياسي، وهذا الشرط يعكس رؤية الجيش بأن أي تفاوض قبل إعادة تموضع القوات سيؤدي إلى تقنين السيطرة العسكرية لـ"الدعم السريع" وإضعاف الدولة المركزية.

ثانياً، إعادة تجميع قوات "الدعم السريع" في مناطق متفق عليها، ووفق مقترح البرهان أن تُحصر قوات "الدعم السريع" في نطاقات مراقبة محددة، بما يمنع حركتها الهجومية ويتيح عملياً فصل القوات، وهو ترتيب يهدف إلى نزع المبادرة الميدانية من "الدعم السريع"، ويعدّ خطوة تمهيدية لبحث مستقبل القوات نفسها ضمن عملية إعادة الهيكلة الأمنية التي تصر عليها الحكومة.

ثالثاً، تطبيع الحياة المدنية وعودة النازحين وتسهيل الإغاثة وإعادة الإعمار، ويرى البرهان أن الترتيبات الإنسانية يجب أن تأتي بعد تثبيت الهدوء الميداني، وليس بالتوازي مع استمرار السيطرة العسكرية لـ"الدعم السريع"، وبذلك يربط بين البعد الإنساني واستعادة سلطة الدولة على الأرض، ويفصل في الوقت ذاته بين "وقف المعاناة" و"قبول الشراكة السياسية".

رابعاً، إطلاق حوار سوداني- سوداني بعد استقرار الوضع الأمني، ويصر البرهان على أن يبدأ الحوار الوطني فقط بعد تنفيذ المراحل السابقة، ليكون حواراً بين قوى مدنية وعسكرية لا تتخذ السلاح وسيلة للضغط السياسي. وهذا التصور يستبعد عملياً أيّاً من أنواع الشراكة مع "الدعم السريع"، ويؤسس لتسوية تقوم على مركزية الجيش.

ومن هذه المراحل، يبدو أن خريطة الطريق في مجموعها رؤية أحادية تعطي الأولوية للحسم الميداني وترتيبات الأمن، لكنها في الوقت نفسه تقدم تصوراً تفاوضياً يضع الجيش في موقع "المحدد الرئيس" لمسار الحل، ويعيد توجيه العملية السياسية وفق شروطه.

آراء متباينة

وتباينت مواقف الأطراف المختلفة تجاه الورقة الأمريكية التي قدمها مسعد، مما يعكس التعقيدات الجوهرية للعملية التفاوضية في ظل استمرار النزاع، فموقف قيادة الجيش السوداني، الرافض للهدنة الذي عبر عنه البرهان يتفق معه "مجلس الأمن والدفاع"، إذ أكد وزير الدفاع الفريق حسن داؤود كبرون، عقب اجتماع المجلس بالخرطوم في نوفمبر الجاري، أن المجلس يرحب بـ"الجهود المخلصة"، مع حفاظه على موقف محايد تجاه البنود الأمنية الحساسة مثل إعادة هيكلة القوات وفصل الأجهزة، مما يعكس حرص الجيش على ضبط السرد الرسمي وتجنب الانقسام الداخلي داخل المؤسسة العسكرية.

على الجانب الآخر، اتخذت قوات "الدعم السريع" خطوة عملية عبر إعلان هدنة إنسانية من طرف واحد لمدة ثلاثة أشهر، تشمل وقف الأعمال القتالية وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، وأوضح "حميدتي" أمس الإثنين أن هذه الهدنة جاءت استجابة للجهود الدولية، وعلى رأسها المبادرة الأمريكية، مع السماح بتشكيل آلية مراقبة دولية لضمان تنفيذ الهدنة وحماية المدنيين وتأمين نشاط المنظمات الإنسانية.

أما القوى المدنية، فأبدت انقسامات في تقييمها للمبادرة، فرحبت بعض الأحزاب والفصائل مثل "حزب الأمة القومي" و"تحالف صمود" بقيادة خالد عمر يوسف بالجهود الأمريكية- السعودية المشتركة، ورأت أن رفض البرهان للورقة هو تعبير عن تردده في تبني السلام.

ووصف وزير مجلس شؤون الوزراء في حكومة "تأسيس" إبراهيم الميرغني مساعي "الرباعية الدولية" بأنها "الأخيرة لتحقيق السلام"، معبراً عن تفاؤل حذر بإمكان وقف الحرب وإعادة التهدئة، بينما تقف بعض القوى السياسية الأخرى مثل "الحزب الشيوعي" على مسافة واحدة من موقف الطرفين، إذ ترى هذه القوى أن موقف البرهان من الورقة يحمل رسالة إلى المجتمع الدولي بعدم القبول بأية صيغة تمنح "الدعم السريع" احتفاظاً دائماً بمراكزه، وفي الوقت نفسه توجه انتقادات لرفضه للورقة.

ويشير خبراء دوليون مثل كاميرون هادسون إلى أن المبادرة الأمريكية تفتقر إلى آليات ضمان قوية، مما يضعف فرص ترسيخ هدنة طويلة الأمد ويزيد من التحديات أمام تنفيذ الالتزامات على الأرض.

وتظهر الورقة الأمريكية كإطار دولي محايد تحاول القوى المدنية والعسكرية من خلاله إعادة ترتيب الأولويات، لكن حدة تباين المواقف بين الجيش و"الدعم السريع" والقوى المدنية، تعكس صعوبة تحويل المبادرة إلى واقع عملي مستدام.

(اندبندنت عربية)

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI