7 ديسمبر 2025
6 ديسمبر 2025
يمن فريدم-جمال عبدالقادر البدوي


أفرزت حرب السودان التي تشارف على إكمال عامها الثالث حراكاً سكانياً لا يكاد ينقطع من أقصى البلاد إلى أقصاها، ودوامة من النزوح لم تنته فصولها بعد منذ انطلاق شرارة النزاع الأولى، منتصف أبريل/ نيسان عام 2023، وحراكاً سكانياً يغذيه التصعيد المتواصل للمعارك والمواجهات المتنقلة من منطقة إلى أخرى، فكيف يمكن قراءة أثر هذا الحراك الذي تغذيه دوامة النزوح في مستقبل ديموغرافيا السودان؟

أعوام من النزوح

بعد أكثر من عامين ونصف العام من اندلاع الحرب قدرت الأمم المتحدة أن هذه الحرب شردت ما يقارب 13 مليون سوداني، نزح منهم 8.6 مليون داخلياً، بينما لجأ أكثر من 4 ملايين إلى الدول المجاورة، وأشارت المنظمة الأممية إلى تعرض ما يقارب 10 ملايين شخص للنزوح أكثر من مرة داخل البلاد، وكان الفارون يذهبون في البدء إلى أماكن وجود عائلاتهم، أو الأماكن التي تكون فيها الظروف الأمنية والاقتصادية أفضل حالاً.

نساء وأطفال

كذلك فإن أكثر النازحين تضرراً وفقاً لدراسة مفوضية العون الإنساني السودانية، هم النساء والأطفال، إذ تجاوزت أعداد النازحات 4.5 مليون، بينما تجاوز عدد الأطفال 3.5 مليون، وبحسب إحصاءات رسمية محلية فقد وصل عدد النازحين في تسع ولايات أكثر من 12 مليون نازح، 90 % منهم من ولايات الخرطوم والجزيرة وولايات دارفور، ويتوزعون على أكثر من 68 محلية من إجمال 189 محلية بولايات البلاد الـ18.

وعزا معظم المنظمات الإنسانية موجات النزوح الواسعة إلى حجم العنف الكبير وتسارع الأعمال العدائية والانتهاكات التي لازمت القتال داخل العاصمة السودانية والمدن الأخرى التي وصلتها نيران الحرب، وتوسع رقعتها وصولاً إلى دارفور وكردفان في غرب ووسط البلاد، بصورة جعلت معظم أنحاء البلاد تقريباً يتأثر بها.

من الخرطوم وبالعكس

كانت الخرطوم مهد شرارة الحرب أولى الولايات التي تعرضت لحركة نزوح جماعية واسعة باتجاه ولايات الوسط والشمال والشرق، وحول النزف السكاني الذي تعرضت له ولاية الخرطوم، ولاية الجزيرة المجاورة إلى أكبر مستقبل للتدفقات السكانية، لكن وبعد سقوط الجزيرة تحرك نازحو الوسط نحو الشرق والغرب في الأبيض، وبدأ ثقل الحراك السكاني يتجه نحو ولاية البحر الأحمر، بخاصة عاصمتها بورتسودان، وكذلك نحو ولايتي نهر النيل والشمالية.

ومع انتقال الحرب إلى دارفور بدأ النزوح المحلي يفرغ حتى القرى والأرياف من سكانها في هجرة داخلية باتجاه شمالها مما أدى إلى تكدس الناس في الفاشر ومحيطها، وبسقوط الفاشر اتجه سكانها إلى مناطق طويلة وجبل مرة الآمنة نسبياً، كذلك اتجه آخرون إلى مدينة الدبة بالولاية الشمالية، ثم عادت دورة النزوح التي بدأت بالخرطوم لتنتهي إليها مرة أخرى، بوصول مجموعات من نازحي الفاشر إليها خلال الأسابيع الماضية.

وأعلنت زارة الصحة الاتحادية اتخاذ ترتيبات فورية وعاجلة لاستقبال النازحين من مدينتي الفاشر وبارا، الذين اضطروا إلى مغادرة مناطقهم بسبب انتهاكات "الدعم السريع"، وأكدت الوزارة التزامها تقديم الإسناد الاتحادي الكامل للولايات المستقبلة للنازحين ودعم خططها الصحية.

دوامة مستمرة

وأعلنت الأمم المتحدة فرار أكثر من 100 ألف شخص من مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور منذ سيطرة "الدعم السريع" عليها في الـ26 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لكن الدوامة لم تنته، فمع اشتعال محور كردفان تفجرت موجة جديدة من النزوح الداخلي شكلت وما زالت ضغطاً مهولاً على مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان التي يرجح أنها تستضيف الآن ما يقارب مليون نازح.

وحذرت الأمم المتحدة من أن تصاعد القتال في إقليم كردفان (جنوب) يواصل دفع العائلات إلى النزوح، موضحة أن نحو 40 ألف شخص شردوا في مختلف أنحاء ولاية شمال كردفان التي تشهد تصاعداً في أعمال العنف.

وتشهد ولايات إقليم كردفان الثلاث (شمال وغرب وجنوب) منذ أيام اشتباكات ضارية بين الجيش السوداني و"الدعم السريع" أدت إلى نزوح عشرات آلاف السكان في الآونة الأخيرة.

وأجبر القتال الذي اندلع في مدينة الجنينة، بغرب دارفور، في يونيو/ حزيران عام 2023، أكثر من نصف مليون شخص على الفرار إلى شرق تشاد، عقب مقتل ما يقارب 15 ألف شخص في غضون أسبوعين، في أعمال عنف عرقية قامت بها "الدعم السريع" واستهدفت قبيلة المساليت ذات الأصول الإفريقية.

قبل سقوط مدينة الفاشر بأيام كانت هذه الجماعة قد استعادت السيطرة على مدينة بارا، مما حرك موجة ضخمة من النزوح قدرت بنحو 40 ألف نازح تشتتوا وسط القرى المجاورة ووصل عدد منهم إلى مدينة الأبيض.

إعادة تشكيل

في السياق رأى الباحث في مجال الهجرة والسكان عبدالمجيد مدثر "أن الحراك السكاني في السودان بسبب الحرب لا ينبغي النظر إليه كمجرد حركة موقتة للسكان، لكن كأحد العوامل التي ستقود إلى إعادة تشكيل التركيبة السكانية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد بالكامل، وقد تستمر تأثيراته عقوداً حتى بعد نهاية النزاع"، ولاحظ مدثر "أن الحرب أحدثت ما يشبه الانقلاب في التوزيع السكاني بالبلاد، فهناك مناطق فقدت النسبة الكبرى من سكانها بسبب القتال والدمار، وشهدت ولاية الخرطوم انخفاضاً ضخماً في عدد سكان مدنها الثلاث (الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري) بانتقال معظمهم إلى ولايات الجزيرة، نهر النيل، والشمالية، وولايات الشرق".

وتابع "تتجلى أبرز تأثيرات موجات النزوح في تغير نسب التوزيع الجغرافي للسكان على المدى القصير بهجرة ملايين السكان من مناطق القتال، خصوصاً من الخرطوم ودارفور وكردفان إلى ولايات أكثر أمناً أو إلى دول الجوار، لكن الحرب قد تترك على المدى البعيد آثاراً في ما خص نمط توزيع السكان وحجم ووضع المدن الاقتصادي، وكذلك في بنيتها الاجتماعية وحتى في فئات أعمار السكان، والتوازنات بين المجموعات السكانية"، وهذا الارتباك والاختلال في التوزيع السكاني، بحسب مدثر، "خلق مناطق شبه خالية في مقابل أخرى شديدة الاكتظاظ بما يفوق قدرتها الاستيعابية، إذ قلبت الحرب شكل النمو الحضري بالتحول المفاجئ من المدن إلى الريف أو إلى الخارج، مما تسبب في إفراغ مدن كبيرة (مثل الخرطوم) من سكانها، بينما أصبحت القرى والبلدات الصغيرة تستقبل أعداداً ضخمة من النازحين".

أسباب وإفرازات

في السياق قال الباحث الاجتماعي مجد الدين عبدالعظيم إن "تفاقم أزمة النزوح والحراك السكاني الواسع المستمر حتى اليوم يحتاج إلى فهم أعمق لأسبابه وإفرازاته المستقبلية بعيدة المدى، فهناك تحولات اجتماعية واقتصادية ستصاحب هذا الحراك القسري للسكان، وما سينجم عنه من تأثير في التركيبة السكانية والعمرانية"، وتوقع الباحث الاجتماعي "بروز مجتمعات ولو بصورة موقتة، يغلب عليها الأطفال والنساء وتعاني نقصاً في القوى العاملة في مناطق بعينها، إلى جانب تأثيرات الحرب المعروفة في رفع معدلات الوفيات بسبب سوء التغذية والأمراض وانهيار الخدمات الصحية، وتفكك المجتمعات نتيجة النزوح القسري".

ولفت عبدالعظيم إلى ضرورة إدراك أن الملايين ممن نزحوا داخلياً من الطبقات الفقيرة الذين لا يمتلكون كلفة الفرار إلى خارج الحدود ولا إمكان تحمل نفقات العيش في عواصم دول الجوار، "يعيشون في ظروف شديدة السوء، ومعظمهم عائلات من النساء والأطفال وكبار السن"، لافتاً إلى أن هذا الأمر يضاعف الجهود المبذولة لتوفير المساعدات العاجلة لهم أو حتى مساعدتهم في العودة إلى مناطقهم الأصلية التي توقف فيها القتال.

ظاهرة طبيعية!

على نحو متصل رأى الأكاديمي والمحلل الاقتصادي محمد الناير أن النزوح ظاهرة طبيعية ملازمة للحروب "غير أن حجمه خلال حرب السودان المستمرة كان كبيراً"، ورأى أن حركة النزوح الواسعة التي رافقت الحرب "لا تشكل مخاوف كبيرة على النشاط الزراعي بالبلاد، لجهة أن العودة إلى الأرياف والقرى، بخاصة في ولاية الجزيرة الزراعية، ستكون أكثر سهولة لبساطة متطلبات الحياة فيها، فضلاً عن أن السودان يمتلك ما بين 85 و90 مليون هكتار (الهكتار يساوي 10 آلاف متر مربع) صالحة للزراعة المستغل منها حالياً لا يتجاوز 25%، كذلك فإنه، عقب استرداد العاصمة، بدأت العودة الطوعية المجانية إلى الخرطوم بشكل نشط ومبشر بعودة الحياة إليها بصورة تدرجية من جديد".

وتوقع الأكاديمي أن تكون عودة الحكومة المركزية إلى الخرطوم على رغم تأخرها، قبل نهاية ديسمبر/ كانون الأول الجاري، "لأن وجود الحكومة بالعاصمة سيسهم في زيادة تأمين الولاية ويسهل عودة المؤسسات العامة ويدفع بعودة الموظفين"، وأشار أيضاً إلى أن عمليات العودة المتواصلة ستعيد الحياة إلى القطاعين الزراعي والصناعي بعودة العمال والموظفين، "ولا سيما النشاط الصناعي المدمر بنسبة 75% بينما لا يزال النشاط الزراعي في المناطق المستقرة مستمراً، باستثناء دارفور وكردفان".

إصلاح ما دمرته الحرب

ومنذ أبريل عام 2023 يشهد السودان صراعاً مسلحاً بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان و"الدعم السريع" بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو، وتشير تقديرات إلى خسائر مباشرة تراوح ما بين 180 و200 مليار دولار وغير مباشرة تفوق 500 مليار دولار أي نحو 40 مرة من ناتج السودان السنوي البالغ متوسطه نحو 36 مليار دولار.

وتوقع اقتصاديون وماليون أن تستغرق عملية إصلاح ما دمرته الحرب من بنى تحتية أعواماً طويلة، في ظل الإنهاك الاقتصادي وتراجع إيرادات البلاد بأكثر من 80% بسبب الحرب، فضلاً عن أن الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية في السودان يستوجب العمل، أعواماً طويلة، لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب.

(اندبندنت عربية)
 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI