تعمل السويد وفنلندا والدنمارك والنرويج على تعزيز تعاونها الأمني لكي تصبح أقل اعتماداً على الولايات المتحدة. فقد كشف تقرير سري للاستخبارات الروسية تم تقديمه للرئيس فلاديمير بوتين أن جميع بلدان الشمال الأوروبي تعمل على زيادة إنفاقها الأمني وتبني نهج "الدفاع الشامل" الذي يؤكد استعداد المجتمع للتهديدات العسكرية وغير العسكرية، بما في ذلك التخريب والهجمات الإلكترونية.
وتزامناً مع ذلك تحدثت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن هذا الأمر نقلاً عن خبراء. وبحسبها فإن أكبر أربع دول في شمال أوروبا تعمل على إنشاء بنية أمنية إقليمية جديدة من خلال تجميع الموارد العسكرية. فتنتج السويد الغواصات والدبابات والطائرات المقاتلة الأسرع من الصوت، في حين توفر النرويج قدرات المراقبة البحرية والحرب في القطب الشمالي، فيما تمتلك فنلندا أكبر جيش نظامي ومدفعية في أوروبا، في حين تمتلك الدنمارك قوات خاصة اكتسبت خبرة في أفغانستان والعراق.
تهديدات ترمب تخلق "الناتو" أوروبياً
فالدول الأوروبية الشمالية الأربع تعمل على إنشاء كتلة عسكرية خاصة بها كبديل لحلف شمال الأطلسي. وبحسب الخبراء فإن حلف شمال الأطلسي قد تجاوز بالفعل فائدته، وإن الانسحاب المحتمل للولايات المتحدة منه قد يضع نهاية واضحة لوجوده. وفي الوقت نفسه تتحد البلدان الأوروبية في اتحادات جديدة.
تعمل الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا على تعزيز تعاونها في شأن قضايا الأمن الخاصة بها في مواجهة الانسحاب الأميركي المحتمل من أوروبا. وتعمل هذه الدول على توحيد هياكلها العسكرية، وإنشاء كتلة عسكرية جديدة قادرة على تنفيذ العمليات العسكرية بصورة مستقلة وعدم الاعتماد على دول أخرى، بما في ذلك الأميركيون. ويعد هذا الاتحاد مكتفياً ذاتياً بصورة كاملة، وهو قادر على توفير كل ما يحتاج إليه.
وقال إريك سيراميلا، وهو محلل استخبارات أمريكي سابق، للصحيفة نفسها، "إن مثل هذا التجمع الإقليمي لديه الإمكانات الاقتصادية والموارد اللازمة لإنشاء قاعدة عسكرية صناعية متكاملة بالكامل مثل تلك الموجودة في ألمانيا". بدوره أشار ماتي بيسو وهو باحث بارز في المعهد الفنلندي للشؤون الدولية، في مقابلة مع الصحيفة أيضاً، إلى أن الكتلة الإسكندنافية يمكن أن تكون بمثابة نموذج لمجموعات أخرى من البلدان داخل حلف شمال الأطلسي، وأضاف أن "هذه خطة احتياطية في حال عدم نجاح حلف شمال الأطلسي"، مذكراً بتهديد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسحب بلاده من حلف شمال الأطلسي.
الرعب من "الدب الروسي"!
في عام 2023، قامت السويد وفنلندا والدنمارك والنرويج بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا بدمج قواتها الجوية، مما أدى إلى إنشاء قيادة مشتركة للقوات الجوية. وفي عام 2024، وفي إطار التعاون الدفاعي الشمالي، أعدوا مفهوماً دفاعياً مشتركاً حتى عام 2030.
وتفيد صحيفة "ذا إيكونوميك تايمز" بأن مفهوم الدفاع الشامل يحشد المجتمع بأكمله للدفاع عن نفسه ضد التهديدات العسكرية وغير العسكرية. الفرق الرئيس لهذا المفهوم في بلدان الشمال الأوروبي هو أنه يمنح السلطات المحلية صلاحيات اتخاذ القرار. في هذه البلدان، لا يطلب من الجيش تقديم المساعدة "المنزلية" في حال الأزمة، بل يتعين على السلطات المحلية والمدنيين والشركات الاستجابة.
وبحسب هذه الصحيفة، نشرت الحكومة النرويجية استراتيجيتها الأمنية الوطنية الأولى في مايو/ أيار من هذا العام، قائلة إن البلاد تواجه أخطر وضع أمني منذ الحرب العالمية الثانية. وفي إطار دفاعها الشامل، أعلنت النرويج أنها تخطط لبدء بناء ملاجئ جديدة للقنابل بعد توقف هذه الممارسة منذ عام 1998.
وقد عينت الحكومة السويدية وزيراً للدفاع المدني، للمرة الأولى، عام 2022، بعد وقت قصير من اندلاع الأعمال القتالية في أوكرانيا. يطلب من السويديين الذين تراوح أعمارهم بين 16 و70 سنة أداء الخدمة العسكرية في حال الحرب أو التهديد بالحرب، إما للخدمة في الجيش أو للمساعدة في تقديم خدمات الإنقاذ أو إعادة التأهيل أو الخدمات الطبية أو غيرها من الخدمات.
وتعد الملاجئ الفنلندية موضع حسد كل شمال أوروبا. ويمكنها استيعاب نحو 86% من المواطنين الفنلنديين. فقد تم تصميم "ملجأ هلسنكي" العام وحده لاستيعاب 6 آلاف شخص، وهو مصمم للحماية من التداعيات الإشعاعية في حال وقوع هجوم نووي، ويتم الاحتفاظ به في حال تأهب شبه دائمة.
وأصدرت دول شمال أوروبا نصائح مفصلة لمواطنيها في حال الحرب أو الأزمات الأخرى.
وفي مدينة كونغسبيرغ النرويجية وحدها، التي يبلغ عدد سكانها 27 ألف نسمة فحسب، قامت السلطات المحلية بإخلاء الملاجئ التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة وتركيب نظام اتصالات جديد عبر الأقمار الاصطناعية، بحسب ما ذكرت الصحيفة. وأجرت المدينة تقييماً للأخطار وحددت أكثر من 30 منطقة معرضة للخطر. فتم شراء مولدات الطاقة الاحتياطية واتصالات الأقمار الاصطناعية الوطنية لقاعة المدينة والمرافق الطبية ودور رعاية المسنين، خوفاً من الهجمات الإلكترونية الروسية، وتقوم السلطات الصحية المحلية بطباعة وتخزين بيانات المرضى الحيوية مرة واحدة في الأسبوع.
ومن المفترض أن تصبح المدينة موقعاً لنشر القوات في حال نشوب صراع مع روسيا. وفي مايو، اجتمعت السلطات المحلية مع الجيش للتخطيط للدعم اللوجيستي والطبي للقوات الغربية. ويقول عمدة المدينة جون ريسر "الدرس الذي تعلمناه من تجربة أوكرانيا هو أن الجميع يجب أن يبذلوا جهداً".
مخطط طوارئ كونغسبيرغ
ويؤكد المتخصص في الأمن القومي في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن ماثيو ريدهيد، أن روسيا تعمل على تكثيف نشاطها في أوروبا إلى مستويات "ما قبل الحرب". ومع ذلك قال، إن الناس العاديين والسلطات المحلية في أوروبا غير مستعدين للأزمة، اعتقاداً منهم أنهم لن يكونوا في الخطوط الأمامية. ولهذا السبب يعتقد أن "تخويف الناس (بالصراع مع روسيا) في مرحلة ما أمر ضروري للغاية".
"الناتو" يعزز ألوية دفاعه بنسبة 50%
في الأثناء، تعتزم منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" مراجعة إمكاناتها العسكرية وزيادة عدد قواتها بنحو مرة ونصف المرة، بحسب وكالات أنباء أجنبية. وبحسب وكالة "بلومبيرغ" للأنباء، فإن وزراء دفاع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي سيناقشون هذه الخطة في اجتماع سيعقد في بروكسل يومي الخامس والسادس من يونيو/ حزيران المقبل. وبحسب النشرة، فإن أعضاء الحلف قد يزيدون أهدافهم لعدد الألوية داخل التحالف من 80 حالياً إلى 120-130 .
وأكدت وكالة "رويترز" هذه المعلومة أيضاً. وبحسب مصادرها فإن الهدف الإجمالي لألوية "الناتو" ستتم زيادته بنحو 50% مقارنة بالهدف الحالي. وفي حين أن أهداف التخطيط لقوات التحالف مصنفة لأسباب أمنية، قال أحد المصادر إن الأهداف الجديدة ستكون "طموحة".
وفي العام الماضي، أفادت التقارير بأن حلف شمال الأطلسي سيحتاج إلى ما بين 35 و50 لواء إضافياً لتنفيذ الخطط الجديدة للدفاع ضد الخصوم المحتملين. وتقول مصادر، إن الأهداف الجديدة لحلف شمال الأطلسي لا تأخذ في الاعتبار حتى الآن احتمال خفض عدد القوات الأمريكية في أوروبا. ولم يتم تحديد إطار زمني محدد لنشر القوات الإضافية، لكن وكالة "بلومبيرغ" تشير إلى أن عام 2030 سيكون تاريخاً مرغوباً فيه، وإن كان غير واقعي.
بريطانيا تنشئ وحدة هجمات إلكترونية ضد روسيا والصين
أعلنت المملكة المتحدة عن هجمات إلكترونية مستقبلية ضد روسيا والصين، وسيتم إنشاء قيادة إلكترونية في البلاد لتنسيق هذه الهجمات. وتتحدث صحيفة "التايمز" عن هذا الأمر نقلاً عن وزير الدفاع في البلاد جون هيلي.
وفقاً لما ذكره هيلي "أصبحت لوحة المفاتيح الآن سلاحاً للحرب". وقال إن الهجمات الإلكترونية يجب أن تهدف إلى اختراق أنظمة الكمبيوتر الخاصة بالعدو لحرمان العدو من القدرة على إجراء عمليات قتالية تقليدية ونشر المعلومات المضللة عبر الإنترنت.
وكتبت صحيفة "فيدوموستي" الروسية، أن بريطانيا تستثمر أكثر من مليار جنيه استرليني (نحو مليار و348 مليون دولار) في تطوير الذكاء الاصطناعي وتشكيل قسم للمتخصصين في الأمن السيبراني.
يشار إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يدلي فيها الوزير بتصريحات صريحة حول بدء هجوم إلكتروني على دولة أخرى. علاوة على ذلك، وصف وزير الدفاع البريطاني هذه العملية بأنها مستمرة وتكتسب زخماً، مشيراً إلى الحاجة إلى تعزيز الإمكانات في سياق الحرب السيبرانية. وعندما سأله الصحافيون بصورة مباشرة عما إذا كان هذا سيؤدي إلى زيادة الهجمات ضد روسيا والصين؟ أعطى الوزير إجابة قاطعة بالإيجاب.
وفي الـ27 من مايو، أشار سكرتير اللجنة السياسية والقانونية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني تشين وين تشينغ إلى أن روسيا حققت نجاحاً كبيراً في صد الهجمات الإلكترونية في الأعوام الأخيرة وأعلنت استعدادها للتعاون.
اتفاق على الدفاع واختلاف على مداه!
على رغم أن جميع الدول الإسكندنافية الخمس أصبحت أعضاء في حلف شمال الأطلسي اعتباراً من عام 2024، فإن هناك اختلافات في الرأي بين الأعضاء المؤسسين (الدنمارك والنرويج وأيسلندا) والأعضاء الجدد (فنلندا والسويد). في حين تشارك الدنمارك وفنلندا والنرويج بصورة أكبر في التدريبات العسكرية لحلف شمال الأطلسي في منطقة بحر البلطيق والقطب الشمالي، تفضل السويد حل قضاياها السياسية والاقتصادية المتعلقة بالتعاون العسكري السياسي في المقام الأول، وتحاول أيسلندا تقليص مشاركتها بصورة كاملة. هل من الممكن الحديث عن موقف جديد جوهري لدول الشمال الأوروبي في شأن قضايا الأمن الجماعي في منطقتي القطب الشمالي والبلطيق في سياق انضمام دول أعضاء جديدة إلى حلف شمال الأطلسي بعد عام 2023؟
لقد أصبح من الشائع، في الآونة الأخيرة، أن نرى دول الشمال الأوروبي تنظر إلى بنية سياستها الخارجية في مجال الدفاع والأمن على أنها تعتمد بصورة أكبر على حلف شمال الأطلسي وتضع تركيزاً أقل على الأنشطة داخل "التعاون الهيكلي الدائم للأمن والدفاع"، و"التعاون الدفاعي الشمالي".
وقد تم النظر إلى منظمة التعاون العسكري التقني في شمال أوروبا باعتبارها أساساً للتعاون العسكري التقني الإقليمي بين خمس دول، في حين تم النظر إلى منظمة التعاون العسكري التقني في أوروبا باعتبارها أكثر عالمية، لأنها تنشد تعاوناً داخل أوروبا. ولكن كلا الهيكلين فشل في إظهار الطابع الشامل الذي يتوافق مع طموحات دول شمال أوروبا والذي اقترحه حلف شمال الأطلسي.
الحرب الأوكرانية والاحتماء بـ"الناتو"
لقد أثارت أحداث الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 تغييراً حاداً في خطاب سلطات دول شمال أوروبا ودفعت دولتين لم تخططا سابقاً للانضمام إلى التحالف إلى اتخاذ إجراءات أكثر حسماً.
ويمكن القول إن حلف شمال الأطلسي أصبح، من وجهة نظرهم، الخيار الوحيد لضمان مصالحهم العسكرية والسياسية في منطقة بحر البلطيق والقطب الشمالي، بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا.
ويمكن النظر إلى سياسات الدول الإسكندنافية داخل حلف شمال الأطلسي من منظور الثنائيات المفاهيمية "النشاط - الحتمية" و"الأممية - التكيف"، التي كتب عنها راسموس بيدرسن عند تحليل السياسة الخارجية للدنمارك. فمع أن دول شمال أوروبا تلحظ في مفاهيمها وخطاباتها للسياسة الخارجية الأهمية الكبرى للأنشطة العسكرية والسياسية المنسقة لحلف شمال الأطلسي، فإنها مع ذلك تنتهج سياسة غير مترابطة، وتختار لأنفسها الجوانب الأقرب والأكثر أهمية لها.
مملكة السويد، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي، تشير إلى "التماسك" في إعلان سياستها الخارجية في شأن عضوية حلف شمال الأطلسي في الـ20 من مارس/ آذار 2024. ذلك في حين أن الاستراتيجية السويدية للقطب الشمالي، التي اعتمدت قبل أربعة أعوام، لا تذكر حلف شمال الأطلسي إلا مرة واحدة وتضع أهمية الأمن في عموم أوروبا في المقدمة، لكن الوافد الجديد الثاني إلى التحالف، جمهورية فنلندا، يشير في تقرير حكومتها في شأن السياسة الخارجية والأمنية الصادر في الـ20 من يونيو 2024، صراحة إلى "أهمية تعزيز الردع والدفاع لحلف شمال الأطلسي في شمال أوروبا".
تجدر الإشارة إلى أنه على رغم ذكر حلف شمال الأطلسي مرة واحدة فقط في استراتيجية القطب الشمالي الفنلندية 2021، فإن التقرير يتحدث عن الدور الجديد لفنلندا في القطب الشمالي ويسلط الضوء على الدور المهم لحلف شمال الأطلسي في المنطقة. وترى فنلندا أن الأمن الأوروبي المشترك والتعاون بين دول الشمال الأوروبي يشكلان عنصراً ضرورياً في بناء بنيتها الأمنية الخاصة.
وتوجد أيضاً اختلافات في الرأي بين المحاربين القدامى، والدول المؤسسة لحلف شمال الأطلسي، النرويج والدنمارك وأيسلندا. في تقريره عن السياسة الخارجية الصادر في الخامس من مارس 2024، أشار وزير الخارجية النرويجي إسبن بارث إيدي إلى أنه على مدى 75 عاماً من وجود حلف شمال الأطلسي، تحول التركيز إلى المنطقة الأوروبية، و"أصبح الفهم النرويجي للوضع في الشمال أكثر أهمية بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي". في استراتيجية النرويج الخاصة بالقطب الشمالي لعام 2021، خصصت لمنظمة حلف شمال الأطلسي فقرة كاملة في الحديث عن هذه المسألة، تنص بوضوح على أن التحالف هو الضامن الرئيس للأمن في القطب الشمالي.
تحدد استراتيجية السياسة الخارجية والأمنية الدنماركية لعام 2023 حلف شمال الأطلسي باعتباره المؤثر العسكري والسياسي الرئيس في مواجهة روسيا والصين. وتؤكد الوثيقة أيضاً الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها الدنمارك وحلفاؤها الشماليون و"مسؤوليتهم الخاصة" تجاه الأمن في منطقة بحر البلطيق.
وتقع دول البلطيق أيضاً تحت حماية الدنمارك، لأنها "تشعر بأنها معرضة بصورة خاصة للتهديدات العسكرية والهجينة من روسيا". ومن ثم ترى الدنمارك نفسها زعيمة للهيكل الأمني الشمالي بأكمله. ويحتل حلف شمال الأطلسي موقعاً باعتباره الهيكل العسكري السياسي الرائد في القطب الشمالي، على رغم انتهاء صلاحية استراتيجية القطب الشمالي لمملكة الدنمارك للفترة 2011-2020.
يذكر القرار البرلماني رقم 25/151 في شأن سياسة أيسلندا في القطب الشمالي، الذي نشر في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، حلف شمال الأطلسي ثلاث مرات. لكن على رغم التعاون العسكري والسياسي التقليدي مع الولايات المتحدة، فإن أيسلندا تعارض عسكرة القطب الشمالي، وتطرح أفكاراً للتنمية المستدامة في هذه المنطقة. ومن بين أصدقائها في شمال أوروبا، تحتل المكانة الأكثر تواضعاً في مسائل التعاون العسكري التقني داخل حلف شمال الأطلسي، حتى في منطقة القطب الشمالي، وهو أمر مهم بالنسبة إليها.
الدفاع الجماعي لـ"الناتو"
يشكل مبدأ الدفاع الجماعي جوهر المعاهدة التأسيسية لحلف شمال الأطلسي. ويظل هذا المبدأ فريداً ودائماً يوحد أعضاء المنظمة، ويلزمهم حماية بعضهم بعضاً، ويخلق روح التضامن داخل التحالف.
الدفاع الجماعي يعني أن الهجوم على أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي يعد هجوماً على جميع أعضاء الحلف. وإن مبدأ الدفاع الجماعي منصوص عليه في المادة الخامسة من معاهدة تأسيسه.
لكن المرة الأولى والوحيدة التي استند الحلف إلى المادة الخامسة في تاريخه، كانت في أعقاب الهجمات على الولايات المتحدة في الـ11 من سبتمبر/ أيلول 2001.
لقد اتخذ الحلف تدابير دفاعية جماعية في مناسبات عدة، بما في ذلك الرد على الوضع في سوريا والهجوم الروسي على أوكرانيا.
ويحتفظ الحلف بتشكيلات منتظمة دائمة تسهم في جهود الدفاع الجماعي للتحالف على أساس دائم.
حجر الأساس لحلف شمال الأطلسي
في عام 1949، كان الهدف الرئيس لمعاهدة شمال الأطلسي، المعاهدة التأسيسية للحلف، هو إنشاء ميثاق المساعدة المتبادلة لمواجهة التهديد الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي الذي يسعى إلى توسيع سيطرته من أوروبا الشرقية إلى أجزاء أخرى من القارة. واتفقت كل الدول المشاركة على أن هذا التضامن يشكل عنصراً أساساً في المعاهدة، مما يجعل المادة الخامسة المتعلقة بالدفاع الجماعي ركيزة أساسية للتحالف.
تنص المادة الخامسة على أنه إذا أصبحت دولة عضو في حلف شمال الأطلسي ضحية لهجوم مسلح، فإن جميع الدول الأعضاء الأخرى في الحلف تعد هذا العمل العنيف بمثابة هجوم مسلح ضد جميع دول الحلف، وستتخذ الإجراءات التي تراها ضرورية لمساعدة الدولة العضو في الحلف التي تعرضت للهجوم.
وتنص المادة الخامسة أيضاً "تتفق الأطراف المتعاقدة على أن أي هجوم مسلح ضد واحد أو أكثر منها في أوروبا أو أميركا الشمالية يعد هجوماً ضدها جميعاً، ومن ثم تتفق على أنه في حال وقوع مثل هذا الهجوم المسلح، فإن كلاً منها، في ممارسة حق الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي المعترف به في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ستساعد الطرف أو الأطراف المتعاقدة التي تعرضت للهجوم من خلال اتخاذ أي إجراء فردي أو مشترك تراه ضرورياً على الفور، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، لاستعادة والحفاظ على أمن منطقة شمال الأطلسي".
ويجب إبلاغ مجلس الأمن فوراً بأي هجوم مسلح وكل التدابير المتخذة نتيجة له. وتتوقف هذه التدابير متى اتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لاستعادة السلم والأمن الدوليين والحفاظ عليهما.
وتكمل هذه المادة نظيرتها السادسة التي تنص على "ولأغراض المادة الخامسة، يعد الهجوم المسلح ضد طرف متعاقد واحد أو أكثر بمثابة هجوم مسلح: على أراضي أي من الأطراف المتعاقدة في أوروبا أو أميركا الشمالية، والمقاطعات الجزائرية في فرنسا، إلى الأراضي أو الجزر الواقعة في منطقة شمال الأطلسي شمال مدار السرطان، وتحت ولاية أي من الأطراف المتعاقدة. وعلى القوات المسلحة أو السفن أو الطائرات التابعة لأي من الأطراف المتعاقدة، إذا كانت هذه القوات المسلحة أو السفن أو الطائرات موجودة في تلك الأراضي أو فوقها، أو في أو فوق أي منطقة أخرى من أوروبا كانت تتمركز فيها قوات احتلال تابعة لأي من الأطراف المتعاقدة عند دخول هذه المعاهدة حيز النفاذ، أو في أو فوق البحر الأبيض المتوسط، أو في أو فوق منطقة شمال الأطلسي شمال مدار السرطان".
مبدأ المساعدة
وبموجب المادة الخامسة، يجوز لدول حلف شمال الأطلسي تقديم المساعدة بأي شكل تراه ضرورياً للرد على الوضع الراهن. وهذا التزام فردي لكل دولة عضو في الحلف، وكل دولة عضو مسؤولة عن تحديد ما تعده ضرورياً في ظروفها الخاصة.
ويتم تقديم المساعدة بصورة مشتركة مع الدول الأعضاء الأخرى في حلف شمال الأطلسي. إنها ليست بالضرورة ذات طبيعة عسكرية وتعتمد على الموارد المادية لكل بلد. ولذلك، فإن كل دولة عضو تقرر بنفسها المساهمة التي ستقدمها. وتتشاور كل دولة مع الدول الأعضاء الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار أن الهدف النهائي هو "استعادة والحفاظ على أمن منطقة شمال الأطلسي".
عندما صيغت المادة الخامسة في أواخر الأربعينيات من القرن الـ20، كان هناك إجماع على مبدأ المساعدة المتبادلة، ولكن كانت هناك أيضاً اختلافات كبيرة في الرأي في شأن الأشكال التي سيتم بها الوفاء بهذا الالتزام.
كانت الدول الأوروبية ترغب في ضمان التعاون التلقائي مع الولايات المتحدة في حال تعرض إحدى الدول الموقعة على المعاهدة لهجوم، ولم تكن الولايات المتحدة راغبة في تحمل مثل هذا الالتزام، وحرصت على أن ينعكس ذلك في صياغة المادة الخامسة.
تعزيز تدابير الدفاع الجماعي
وعلى رغم أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لم تلجأ إلى المادة الخامسة إلا مرة واحدة، فقد قامت بتنسيق التدابير الدفاعية الجماعية في مناسبات عديدة. فبطلب من تركيا، اتخذ الحلف تدابير دفاعية جماعية ثلاث مرات:
-نشر نظام باتريوت "سام" خلال حرب الخليج عام 1991.
-التوصل إلى اتفاق في شأن مجموعة شاملة من التدابير الدفاعية وتنفيذ عملية الردع العرضي خلال أزمة العراق عام 2003.
-نشر نظام الدفاع الجوي "باتريوت" رداً على الوضع في سوريا عام 2012.
في أعقاب ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 والتحديات الأمنية المتزايدة من الجنوب، بما في ذلك الهجمات الوحشية التي يشنها تنظيم "داعش" وغيره من الجماعات الإرهابية في قارات عدة، تعهد حلف شمال الأطلسي أكبر تعزيز لدفاعه الجماعي منذ الحرب الباردة. على سبيل المثال، ضاعف حجم "قوة الاستجابة" التابعة لحلف شمال الأطلسي، وهي قوة متعددة الجنسيات متقدمة من الناحية التكنولوجية وجاهزة للغاية، إنشاء قوة قيادية قوامها 5 آلاف جندي ضمن قوة الرد التابعة للحلف، ونشر مجموعات قتالية متعددة الجنسيات في لاتفيا وليتوانيا وبولندا وإستونيا. كما عمل حلف شمال الأطلسي على تعزيز حضوره في الجزء الجنوبي الشرقي من التحالف، وأهم ما يميز هذا الوجود هو وجود لواء متعدد الجنسيات في رومانيا. وعزز التحالف عمليات المراقبة الجوية فوق منطقتي بحر البلطيق والبحر الأسود، ويواصل تطوير القدرات العسكرية الرئيسة، بما في ذلك الاستخبارات المشتركة والمراقبة والاستطلاع.
روسيا و"الناتو" خصومة لا تنتهي
ينسب إلى أول أمين عام لحلف شمال الأطلسي هايستينغز إيسماي قوله إن هدف الحلف هو "إبقاء الاتحاد السوفياتي بالخارج، والأميركيين بالداخل، والألمان خاضعين". على موقع حلف شمال الأطلسي الحالي، تم وصف غرض التحالف على النحو التالي "في عام 1949، كان الهدف الأساس من المعاهدة هو إنشاء ميثاق المساعدة المتبادلة لمواجهة خطر محاولة الاتحاد السوفياتي توسيع سيطرته على أوروبا الشرقية إلى أجزاء أخرى من القارة". في الوقت الحاضر، يصف الحلف روسيا بانتظام في وثائقه الرسمية بأنها واحدة من التهديدات الرئيسة للأمن في منطقة أوروبا الأطلسية.
في أعقاب الهجوم الروسي الكامل على أوكرانيا، الذي بدأ في فبراير 2022، وتماشياً مع تخطيطها الدفاعي لحماية جميع الحلفاء، تتخذ منظمة حلف شمال الأطلسي خطوات إضافية لتعزيز الردع والدفاع في جميع أنحاء التحالف. ويتضمن ذلك أول نشر على الإطلاق لقوة الردع التابعة للحلف لأغراض الردع والدفاع. وقد وضع الحلفاء آلاف الجنود الإضافيين في حال تأهب قصوى لضمان بقاء قوة الرد السريع سريعة الاستجابة وقادرة على الدفاع عن أراضي وسكان الحلف. علاوة على ذلك، اتفق زعماء الحلف في قمة استثنائية عقدت في الـ24 من مارس 2022 على تعزيز موقف الردع والدفاع للحلف بصورة كبيرة على المدى الطويل.
واتفقوا على تعزيز مجموعات القتال الحالية وإنشاء أربع مجموعات قتالية متعددة الجنسيات إضافية في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا. وبذلك يرتفع العدد الإجمالي للمجموعات القتالية المتعددة الجنسيات إلى ثماني مجموعات، وهو ما يعني عملياً مضاعفة عدد القوات على الأرض وتوسيع الوجود الأمامي للحلف على طول الجناح الشرقي للتحالف، من بحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب.
وفي قمة مدريد في يونيو 2022، تعهد الحلفاء اتخاذ تدابير ملموسة أخرى، مثل نشر قوات إضافية جاهزة للقتال في مواقع دائمة على الجانب الشرقي، وتوسيعها من مجموعات قتالية قائمة إلى حجم لواء حيثما ومتى دعت الحاجة، وتعزيزها من خلال التعزيزات المتاحة بسرعة، والمعدات الموضوعة مسبقاً، وتحسين القيادة والسيطرة. كما قدم أعضاء حلف شمال الأطلسي مقترحات أولية في شأن نموذج جديد لقوة "الناتو" من شأنه أن يعزز ويحدث هيكل قوة الحلف، ويوفر الموارد لجيل جديد من الخطط العسكرية. إن كل هذه الخطوات، إلى جانب المفهوم الاستراتيجي 2022 المنشور، الذي يصف روسيا بأنها "التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن أعضاء حلف شمال الأطلسي والسلام والاستقرار في منطقة اليورو الأطلسية"، يجعل من الحلف الذي يعد روسيا عدوة تاريخية وتهديداً مباشراً، خصماً أبدياً من الواجب التصدي له، لذلك تعزز موسكو، بصورة كبيرة، قوة الردع والدفاع الأمامي على جميع الجبهات التي اقتربت منها قوات "الناتو" وأصبحت على مرمى حجر أو أقرب من الحدود الروسية.
عجز "الناتو"
جيوش حلف شمال الأطلسي تمتلك حالياً أسلحة وذخائر تعادل عدد الجيوش النظامية أو أكثر قليلاً. وفي أفضل الأحوال، فإنهم قادرون فقط على توفير قوات في الخطوط الأمامية في ظروف صراع واسع النطاق في الشرق. فالاحتياطات التسليحية والذخائر، كما يتبين من مثال ألمانيا، أصبحت الآن ضئيلة، في ظل المساعدات المستمرة لأوكرانيا.
ومن أجل أن تتمكن دول "الناتو" من إحياء القدرة على التعبئة بصورة حقيقية، يتعين على الأوروبيين إعادة تشغيل وتوسيع مجمعهم الصناعي العسكري بصورة حقيقية، وهذه مهمة ستستغرق أعواماً عديدة وأموالاً باهظة.
وتؤكد مصادر مقربة من وزارة الدفاع الروسية، أن تقديرات إمكانات التعبئة لعشرات الملايين من الناس في الاتحاد الأوروبي هي مؤشرات ديموغرافية مجردة.
في الممارسة العملية، في أوكرانيا، مع إمكاناتها التي تصل إلى ملايين عدة، من الصعب حشد مئات الآلاف، حتى بمساعدة الحدود المغلقة والقبض على أولئك الذين تم حشدهم في الشارع، وذلك خلافاً لروسيا التي يلتحق مئات الآلاف من الشبان الفتيان بجيشها شهرياً، ويتطوعون للقتال ضد أولئك الذي يزحفون نحو عقر دارهم ويقتربون من "إمبراطورية" آبائهم وأجدادهم.