تعيش محافظة تعز أزمة صحية وبيئية مركبة، إذ يواجه القطاع الصحي انهيارًا غير مسبوق نتيجة الحرب والحصار المستمر منذ سنوات، ما انعكس على مستوى الخدمات الطبية وانتشار الأوبئة وتفاقم المخاطر البيئية الناتجة عن النفايات الطبية.
بنية تحتية متهالكة ونظام صحي على حافة الانهيار
تشير بيانات مكتب الصحة العامة والسكان بمحافظة تعز إلى أن أكثر من 70 مرفقًا صحيًا تضرر جزئيًا أو كليًا منذ بداية الحرب، فيما خرجت عشرات المراكز الريفية عن الخدمة بسبب نقص الإمكانيات وانعدام الدعم.
ويقول تيسير السامعي، مدير دائرة التوعية والتثقيف الصحي في مكتب الصحة، إن “الوضع الصحي في تعز مقلق للغاية، فالمرافق الصحية تعمل في ظروف قاسية، ومعظمها يفتقر لأبسط مقومات التشغيل من كهرباء ووقود ومستلزمات طبية”.
وأضاف السامعي في تصريحه لـ"يمن فريديم" أن "أقسام الطوارئ والعناية المركزة تعاني من نقص حاد في الأجهزة، والمختبرات الطبية شبه مشلولة، فيما يعتمد النظام الصحي على دعم محدود من المنظمات الإنسانية لا يغطي سوى 30% من الاحتياجات".
ضعف الإمكانيات والدعم الإنساني
تعمل مستشفيات كبرى مثل الثورة والجمهوري والمظفر بأقل من نصف طاقتها التشغيلية، بينما توقفت بعض المراكز الريفية عن استقبال المرضى.
وتوضح الدكتورة إيلان عبد الحق، وكيلة المحافظة للشؤون الصحية، أن "النظام الصحي في تعز بحاجة إلى إعادة بناء شاملة وليس مجرد دعم مؤقت، فالمستشفيات أصبحت عاجزة عن استيعاب المرضى، والمعدات متهالكة منذ سنوات دون صيانة".
وأضافت: "الوضع في الأرياف أكثر مأساوية، حيث يضطر المواطنون إلى السفر لمسافات طويلة للحصول على خدمات أولية بسيطة، وغالبًا يعودون دون علاج".
شكاوى المواطنين.. المرض يطرق الأبواب والخدمات غائبة
يشتكي المواطن شادي عبدالقوي، من تدهور الخدمات الصحية قائلاً: "نأتي إلى المستشفى بحثًا عن علاج فنُفاجأ بانعدام الأدوية وازدحام المرضى، وحتى الفحوصات نُجبر على عملها في مختبرات خاصة".
أما أم خالد، وهي أم لطفلين أحدهما مصاب بحمى الضنك، فتقول: "أنتظر منذ الصباح في الطوارئ، ولا أحد يهتم، الأطباء معدودون، والأدوية مفقودة، وحتى الماء غير متوفر في الحمامات".
ويضيف المواطن صالح المليكي، من حي المطار القديم، أن "الناس في الأحياء السكنية يعانون من تفشي الأمراض بشكل مخيف، فكل بيت فيه مريض بالحميات أو الكوليرا، ولا توجد فرق رش أو حملات نظافة تذكر".
وتتكرر شكاوى المواطنين من الإهمال الطبي، وغياب النظافة داخل المستشفيات الحكومية، وانعدام الرقابة على أداء الكوادر الصحية، ما فاقم معاناة الأهالي وزاد من انتشار الأمراض.
أوبئة متفشية وإحصائيات مقلقة لعام 2025
اشتكى مواطنون وعاملون في القطاع الصحي من مدينة تعز، من زيادة حالات الإصابة بالأمراض الموسمية منذ بداية العام 2025 مما فاقم من سوء الوضع الصحي المتردي بسبب الحرب المستمرة.
عبد النور المسني، وهو طبيب في أحد مستشفيات المدينة، يقول: "منذ بداية العام أصيب الكثير من الأطفال وكبار السن بالأمراض الموسمية، ما يُثقل كاهل الأسرة بسبب غلاء المعيشة وأسعار العلاج وعدم توفر الخدمات المجانية".
وبحسب إحصائيات مكتب الصحة بتعز حتى سبتمبر 2025، تم تسجيل 9,812 حالة إصابة بالأمراض الوبائية، توزعت بين 5.695 حالة كوليرا وإسهالات مائية حادة، و2,508 حالات حميات (حمّى الضنك والشيكونغونيا وغيرها)، و1.609 إصابات بالحصبة، إلى جانب 21 حالة وفاة بينها 10 بالكوليرا و10 بالحصبة وحالة واحدة بسبب الحميات.
وفي النصف الأول من العام ذاته، بلغ عدد الإصابات المبلغ عنها أكثر من 3,400 حالة بحسب تقارير المكتب، قبل أن تشهد المدينة انخفاضًا نسبيًا في الربع الأخير من العام نتيجة حملات الرش المحدودة.
ويقول يحيى الحاج، مسؤول الترصد الوبائي في المحافظة، إن “تعز أصبحت بيئة خصبة لتكاثر نواقل الأمراض بسبب تراكم القمامة وضعف شبكات الصرف الصحي، إضافة إلى التلوث الناتج عن المخلفات الطبية التي تُرمى في محيط المستشفيات ومجاري السيول دون معالجة”.
النفايات الطبية.. خطر مضاعف يهدد البيئة والصحة
تشكل النفايات الطبية في تعز مصدر قلق متزايد، إذ تُجمع في أكياس بلاستيكية وتُترك قرب المستشفيات قبل نقلها مع القمامة العامة، دون فصل أو معالجة.
ويقول ريان الشميري، خبير في النظام البيئي، إن “إلقاء النفايات الطبية في مجاري السيول يمثل كارثة بيئية وصحية بكل المقاييس، لأنها تُحمل إلى مناطق تجميع المياه، ما يؤدي إلى تلوث خطير في المياه الجوفية التي يعتمد عليها السكان للشرب والاستخدام المنزلي”.
وتؤكد الدكتورة إيلان عبد الحق أن "غياب محطة مركزية لمعالجة النفايات الطبية يمثل ثغرة خطيرة في منظومة الصحة العامة، فالمحرقة الوحيدة المطابقة للمعايير الدولية موجودة في المستشفى الجمهوري، بينما المحارق الأخرى إما متوقفة أو بدائية".
خطط محدودة وحلول مؤجلة
تعمل السلطات الصحية في تعز بالتعاون مع المنظمات على إعداد خطة لإنشاء محطة مركزية لمعالجة النفايات الطبية، وإنشاء مقلب صحي بعيد عن المدينة ومصادر المياه الجوفية، إلى جانب مشروع لإنشاء مصنع تدوير للنفايات الطبية.
ويقول تيسير السامعي إن “هذه الخطط ما تزال حبرًا على ورق، ولا يمكن وقف الكارثة البيئية والصحية إلا بتفعيل الرقابة، وتوفير الدعم اللازم لإعادة تأهيل المستشفيات والمحارق الطبية”.
بين الإهمال والحرب.. المواطن يدفع الثمن
في ظل هذا الواقع المتدهور، يدفع المواطن في تعز الثمن الأكبر من صحته وحياته.
وبين مستشفيات عاجزة، وأوبئة تتفشى، ونفايات طبية تُلقى بلا معالجة، يبقى القطاع الصحي في تعز بحاجة إلى تدخل عاجل يعيد بناء المنظومة الصحية، ويضمن بيئة نظيفة وآمنة تحمي الإنسان قبل كل شيء.