"رحل الأسد" كلمات صدحت من حنجرة رجل دمشقي فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي 2024 في دلالة على سقوط رئيس سوريا السابق بشار الأسد، وهروبه هو عائلته وكبار حاشيته إلى العاصمة الروسية موسكو.
في ذلك اليوم لم يغمض السوريون عيونهم، كيف لا؟ وفي هذه الوقت يضع الشعب السوري نهاية لحكم امتد نحو نصف قرن منذ اعتلى الأسد الابن الرئاسة في عام 2000 عن طريق التوريث في مخالفات دستورية غير مسبوقة بعد وفاة والده حافظ والذي تربع على كرسي الحكم بانقلاب عسكري أطلق عليه "الحركة التصحيحية" في عام 1970 وظل ممسكاً بالبلاد بقبضة أمنية حكم خلالها بالنار والبارود.
وبالعودة إلى بشار وعائلته، فمنذ خروجه برحلة "اللاعودة" حطّ هذه المرة على الأراضي الروسية ليس كرئيس يحتفى به بل بصفة لاجئ إنساني، فلا مراسم ولا بروتوكولات إنه "نهاية الرئيس"، وهناك ينبغي عليه اعتياد ليالي موسكو الباردة، يملك ثروة كانت قد سبقته منذ عام 2020 تقدر بين مليار إلى ملياري دولار ونقلت عبر الخطوط الجوية السورية وضمن رحلات أسبوعية إلى موسكو، تصل إلى مطار فنوكوفا، ونفذت عمليات التهريب عبر شبكة من العمليات المالية السرية.
أجواء روسيا الباردة
ومن موسكو تحدثت "اندبندنت عربية" مع مدير مركز "جي أس أم" للدراسات آصف ملحم، الذي استعرض بعض التفاصيل عن حياته الحالية التي يعيشها كأي مواطن روسي عادي، حيث لديه أماكن معينة يزورها، وهي محدودة جداً وكلها تحدث بإشراف مباشر من الاستخبارات الروسية، إذ لا يمكن تركه يتحرك بحرية من دون رقابة بشكل مباشر.
ويعزو الرقابة الشديدة على تحركاته بأنها تتعلق بمن يراقب الأجواء في موسكو، ويتحين أية فرصة لاغتياله، بخاصة أن الأسد يحمل معه أسراراً بالغة الأهمية من منظومة ممتدة لأكثر من نصف قرن تتعلق بأوروبا وإيران وإسرائيل وأميركا وكثير من التفاصيل والأسرار التي تدين روسيا ذاتها، وتسريب أية معلومات قد يضرّ بالروس.
وحول السؤال عن عودة محتملة للعمل السياسي من الخارج أجاب الدكتور ملحم أنه "ليس ممكناً في الوقت الحاضر على رغم أن بعض السياسيين الروس تحدثوا عن دور ما للأسد في المستقبل، ولا نعلم ما هو طبيعة هذا الدور".
ورجح مدير المركز الروسي للدراسات السياسية، أن تمنح موسكو في المستقبل دوراً ما للأسد في الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا "قد يكون له دور مقنن في منطقة الشرق الأوسط، ولكن استبعد أن يقبل كونه كان في ما مضى رئيساً لسوريا، وأي عمل سياسي من طرفه سيزيد الطين بلة، فالشارع السوري معقد من حيث التركيبة النفسية الاجتماعية، والناس تتحرك بالغريزة، لك أن تتخيل مجرد إشاعة حول الدروز كانت كفيلة بتحريك مجموعات من الفصائل المسلحة وهجمات على بعض المناطق الدرزية وتكررت في الساحل وسقط العديد من الأبرياء".
واستبعد ملحم ما يصدر من بيانات من شخصيات روسية عن الأسد لا تعلم بها الاستخبارات الروسية من جهة تحركات متداولة عن دعم أيمن جابر (أحد المقربين من الأسد وأحد أذرعه العسكرية والاقتصادية)، وأضاف "لا أعتقد أن يكون رامي مخلوف (رجل أعمال وقريب بشار الأسد) موجوداً في روسيا، ربما في الإمارات أو بيلاروس، ومن جهة تحرك جابر ومخلوف، فمن الواضح أنهم يتصرفون بشكل فردي، وفي حال علمت الاستخبارات الروسية بذلك ستعرضهم للمشكلات، وإذا كانت روسيا تعلم بذلك لأنها معنية بإبقاء يدها في سوريا فقد تكون تحركهم لجس النبض لكي تعلم ما هي الخطوات اللاحقة التي يجب أن تتبعها في هذا الملف".
نادي النخبة
ويدور الغموض حول أخبار الأسد، ولم يظهر بأية إطلالة أو مقابلة صحافية، وتدور بالمقابل أحاديث عن تسميمه ودخوله المستشفى للعلاج أما زوجته أسماء الأخرس تدير سلسلة أعمال العائلة الاقتصادية، وفق ما أعلن مدير "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، رامي عبد الرحمن في لقاءات تلفزيونية، كذلك أكد أن أبناء الأسد لديهم جوازات سفر أجنبية ويتنقلون بحرية تامة.
ويقول صحافي مقيم في موسكو، لم تكشف صحيفة "يسرائيل هيوم" التي نقلت تصريحه، عن جنسيته، إن الأسد دخل مجال العقارات الفارهة في العاصمة الروسية، واستثمر في أبراج مدينة موسكو.
وكان الأسد قبل سقوطه أرسل شخصيات مقربة منه إلى موسكو لشراء 19 شقة مختلفة في جميع أنحاء المدينة على مدار سنوات ماضية، بلغ سعر الشقة الواحدة العادية ما يقارب 2 مليون دولار في ذلك الوقت.
وتوقع المتحدث مغامرة الأسد بالأعمال التجارية، إن لم يكن شخصياً فمن خلال أبنائه، موضحاً "هناك أموال نقدية أتت من سوريا منذ عدة سنوات، ويقسم بعض المطلعين أنه تم تحويل 250 مليون دولار نقداً، وتزن أطناناً إلى موسكو في أكثر من 20 رحلة جوية، كذلك أسس ابن خال بشار الأسد إياد مخلوف شركة عقارية باسمه في موسكو لإدارة أموال العائلة".
وجاء على لسان الصحافي من موسكو والمطلع على بعض التفاصيل، في تقرير نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم" في منتصف فبراير/ شباط عام 2025، أن "الأسد أتاح له توغله في الاستثمار العقاري، الاشتراك في نادي ’النخبة‘ ما يسهل له المشاركة في الحياة الاجتماعية الغنية في موسكو، لكن معلومات أخرى تشير إلى تجنبه هذا الأمر بشكل تام، وكذلك الدخول في الحياة الاجتماعية الفارهة في موسكو لأسباب قد تتعلق بتوجيهات حكومية روسية للتواري عن الأنظار أو لدوافع أمنية".
حماية روسية حتى النهاية
إزاء هذا وبعد كل هذه الفترة تحدث الباحث السياسي ملحم عن حماية روسيا للرئيس المخلوع من منطلق إنساني، ويستذكر كيف قتل القذافي بطريقة غير إنسانية، ووصف ما حدث له بـ "المؤلم"، ورجح أنه لو تُرك الأسد في سوريا لقتل بنفس الطريقة وعائلته.
ويضيف المتحدث "في حال ترك لهذا المصير ستكون أيضاً بمثابة وصمة عار بحق روسيا إلى ألف سنة، وهي احتضنته كشخص واحتضنت سوريا كسياسة، ولو لم تنقذه سيكون قتيلاً ولا يمكنها إلا أن تحميه، وإذا تركته لن يبقى مؤرخ في العالم إلا وكتب ضد روسيا، بما في ذلك الإعلاميين والمفكرين الكبار الذين يكتبون ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
وكشف ملحم "لم تحمِ روسيا الأسد بمفرده بل استقدمت كل الشخصيات والنخب السياسية والإعلامية والاجتماعية من تيار الأسد، ويبلغ عددهم نحو خمسة آلاف شخصية، والعدد كبير لأنه لم يقتصر على جلب الشخصيات من الصف الأول بل من الصف الثاني، وأنا أعرف بعضهم بمن فيهم شخصيات أمنية وعسكرية التي تعتبرها روسيا خانت العهد الروسي لكن على رغم ذلك حافظت على حياتها".
وفي تطور جديد حول محاكمة الأسد تناقلت وسائل إعلام فرنسية أنباء عن إخفاء النيابة الوطنية الفرنسية لمكافحة الإرهاب مذكرات توقيف دولية صادرة بحقه وبحق شقيقه ماهر واثنين من كبار المسؤولين بالنظام السابق تتهمهم بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في الهجمات الكيماوية عام 2013 على الغوطة الشرقية.
وعلى رغم صدور مذكرة التوقيف فإنها لم تدرج في أنظمة التنبيه الأوروبية مثل "شنغن"، ولم تصل كذلك للإنتربول كما ذكرت صحيفة "ليبراسيون"، إذ تشير التحقيقات إلى أن المذكرات بقيت محصورة في سجل المطلوبين داخل فرنسا حتى منتصف 2025 الأمر الذي عدّه خبراء القانون غير مسبوق وغير منطقي.
الحماية والمحاكمة
وفي كل الأحوال لا يزال الرئيس الهارب يتنقل في روسيا الباردة ببطء وبالخفاء، بينما تسير العلاقات بين موسكو ودمشق على نحو أفضل مما كان متوقعاً، فقد زار الرئيس السوري أحمد الشرع الكرملين والتقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتبعت ذلك زيارات قوات روسية ووزارة الدفاع إلى سوريا، ورجح مراقبون أن يطلب الشرع من بوتين تسليمه لمحاكمته ببلاده لكن الأمر ليس بهذه السهولة.
ويستبعد الدكتور ملحم في حديثنا معه إجراء أية مقايضة "لا يمكن حدوثها بأي شكل من الأشكال، فهو يستحوذ على ملفات عمرها نصف قرن من التعاون السوفياتي- السوري قديماً، وأنا أجزم بأن تركيا لن تقدم على هذه الخطوة وبالتأكيد اتفقت الأطراف على الإبقاء على حياته مقابل إغلاق جميع الملفات".
ويذهب الاعتقاد إلى أن محاكمة الأسد من قبل السلطات الجديدة ستقدم ورقة من ذهب لأوروبا في محاولة لإدانة روسيا، وقد تكون تركيا من الدول المرشحة لاصطياد الشخصيات السورية لديها في روسيا، بل ومرجح أن تستخدم أنقرة بعض الأوكرانيين للتعرض للأسد ومن معه.
وأضاف ملحم "من المؤكد أن الأسد ذهب إلى طريق الاستثمار، ربما عن طريق ترخيص شركة في موسكو، والذي يكلف ذلك بين 25 إلى 30 ألف دولار كحد أقصى، ولذلك يمكنه أن يمارس استثمارات لكن عبر شخصيات مقربة منه، ويكون هو مشرف من بعيد، وأية معلومات بالوثائق الرسمية المفتوحة ستوضع الشركة على مواقع الاقتصاد والخارجية ومصلحة الضرائب، وبهذا سيعلم الناس أين يعمل. ولعل المجالات التي يمكن العمل بها انشاء برمجيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، هو طبيب قد يعمل في مجاله وبالتأكيد لن يكون أي أوراق باسمه".
(اندبندنت عربية)