نزَح مجيد عبد الله قبل عشر سنوات برفقة زوجته وأطفاله من منطقة الرُّوَع الأسفل، الواقعة جنوب شرق مديرية موزع بمحافظة تعز، هربًا من نيران الحرب.
استقر في منطقة نائية بمديرية المخا، ظنًا منه أن النزوح سيمنحه الأمان، لكنه لم يتخيل أن تلك الخطوة ستقوده إلى حياة قاسية، مليئة بالمشقة والتكاليف الباهظة، وظروف معيشية تزداد صعوبة مع مرور الوقت.
يقول مجيد: "لا يدرك حجم معاناة النزوح إلا من عاشها، لك أن تتخيل فقط ماذا يعني أن تترك منزلك وأرضك وذكريات عمرك في لحظات، وتدخل في دوامة التشرد والفقر والخذلان والتشتت. كنا نعيش بأمان واستقرار، حتى جاءت الحرب وأطفأت وهج الحياة في أعيننا، وجعلتنا مجرد أرقام تُضاف إلى قوائم النازحين".
يعيش مجيد في كوخ طيني متصدع، برفقة عشرات الأسر التي تتقاسم معه ذات المعاناة. يعمل أغلب معیلو هذه الأسر في أعمال غير مستقرة، وهي الوحيدة المتاحة لهؤلاء النازحين الذين لم يجدوا فرص عمل أمناسبة تساعدهم على مقاومة قسوة النزوح.
يعيش مجيد ومعه عشرات الأسر في منطقة معزولة تمامًا عن العالم، تفتقر لأبسط مقومات الحياة لا ماء، لا كهرباء، لا خدمات صحية، ولا تعليم أو مواصلات، والأسوأ أنهم لم يتلقوا أي مساعدات إنسانية رغم حاجتهم الماسة إليها.
أم سامي هي الأخرى "نازحة" لم تحصل على المساعدة الكافية حتى تستطيع مقاومة مرارة النزوح، نزحت مع أسرتها، بعد أن اقتربت المعارك من قريتها الواقعة في أحد أرياف مديرية الصلو بمحافظة تعز، فرت مع أطفالها الثلاثة وزوجها الذي يعاني من اضطراب نفسي، إلى قرية مجاورة بحثًا عن الأمان، تاركة خلفها منزلها وحياتها المستقرة.
ورغم نزوحها القسري، لم تتلقَ (أم سامي) أي من المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات للنازحين، ما فاقم من معاناتها، خاصة في ظل مرض زوجها وصغر سن أطفالها الذين يحتاجون إلى من يعيلهم. استقرت مؤقتًا في منزل أحد أقاربها، وحاولت كسب القليل من المال عبر العمل في الحقول إلى جانب بعض المزارعين.
تقول أم سامي: "زارنا عدد من الأشخاص وأخذوا بياناتي، لكن لم يصلني أي دعم. عانيت كثيرًا، وكبر أطفالي وهم يعملون بالأجر اليومي مع بعض التجار والفلاحين لمساعدتي في تلبية احتياجاتهم. والدهم لا يغادر غرفته ويعيش معزولًا عن الآخرين بسبب حالته الصحية".
نازحون في التقارير الدولية
بحسب تقرير حديث للمنظمة الدولية للهجرة، فإن 183 أسرة نزحت مرة واحدة فقط خلال الفترة من 1الى 31 يناير، وأشار التقرير إلى أن الصراع يُعد السبب الرئيسي لهذا النزوح، فيما تعود أسباب نزوح عدد من الأسر الأخرى إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي دفعتها إلى مغادرة مناطقها بحثًا عن سبل معيشية أفضل.
فيما أفاد تقرير لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن النزوح في اليمن يمثل أزمة إنسانية، حيث يقدّر عدد النازحين بنحو 4.8 مليون شخص حتى عام 2025.
وأكد التقرير أن 19.5 مليون يمني في حاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، في ظل تفاقم أزمة الأمن الغذائي وتدهور الخدمات الصحية، ووجود مخاطر كبيرة تتعلق بالحماية، خاصة بين الفئات الأشد ضعفًا كالأطفال والنساء وكبار السن.
واقع أشد
لم يكن أمام سالم سلوين (44عاما)، خيار آخر سوى النزوح مع أفراد أسرته من منطقة "الدوش" التابع إداريا لمدينة المخا، إلى قرية المزارع غرب الكدحة التابعة لمنطقة الحكم مديرية ذوباب، تاركا خلفه منزله ومصدر دخله وكل ما يملك ليدخل في دوامة النزوح والتشرد والجوع والألم، باحثا عن فرصة عمل تنقذ أطفاله من شبح الجوع وتمنحهم فرصة للحياة.
يقول سالم:" كنت أعمل صيادا في قريتي الهادئة التي لم تكن تعرف الحرب أو الخوف لكن الصراع حولها إلى مكان للموت، بعدما امتلأت أراضيها بالألغام، اضطررت للفرار مع أسرتي بعد أن بدأ الموت يحصد أروح الأبرياء من حولنا لم نكن نعلم أن مرارة النزوح قد تكون أشد قسوة من الموت نفسه".
يعيش سالم مع أطفاله الثلاثة أحمد، حنان، ومروة وزوجته في منزل يتكون من عشة مصنوعة من الأشجار والطين والأقمشة والحشائش اليابسة وفناء صغير، لا يملك مطبخ ولا دورت مياه ولا حتى باب يحميهم من الضباع والكلاب التي تتجول ليلا في المنطقة.
ويضيف:" أخاف على أطفالي كثير خاصة في الليل أثناء نومهم من الكلاب والضباع، أخشى أن يغرقني النوم واستيقظ ولا أجد أطفالي وزوجتي، لم استطيع بناء غرفة من البلوك آمن على أطفالي منها خاصة أنه قد حدثت قصة امرأة في منطقة قريبة مننا، حيث ذهب بها النوم واستيقظت ولم تجد سوا الجزء السفلي لطفلها الرضيع الذي كان نائما في هندوله المستدل من سرير خشبي كانت نائما عليه".
يقول سالم عن مرض زوجته:" جاءت فترات كانت زوجتي تعاني من حمى شديدة، أضع لها كمادات واحيانا أخرى اذهب البحث عن مهدئ، كانت تهدأ لأيام وتعود لنفس الحالة، فجأة فقدت سمعها، وإلى الآن لا استطيع الذهاب إلى المستشفى وعلاجها".
حقوق النازحين
فارس النجار، وهو مستشار اقتصادي في مكتب رئاسة الجمهورية، يقول إن حقوق النازحين في اليمن المفروض أنها تستند إلى مبادئ القانون الدولي والإنساني والذي يحتوي على مبادئ توجيهية بشان التعامل مع النزوح الداخلي وهذه المبادئ صادرة في قوانين الأمم المتحدة للعام1998، والتي يجب أن تكون مرجع أساسي لتعامل مع هذه الحالات والتي بموجبها يجب أن تلتزم الدولة والمجتمع الدولي وكذلك المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية بأربع أشياء رئيسية تأمين الحماية والأمان للنازحين في أماكن تواجدهم.
ويتابع النجار حديثه:"ضمان حقهم في السكن الملائم وعدم تعرضهم لتهميش، وتوفير سبل العيش الكريمة عبر تمكينهم فرص عمل ودخل مستدام وتوفير الخدمات الأساسية لهم من صحة وتعليم ومياه وصرف صحي".
يؤكد النجار أن هناك عدة طرق يمكن أن تخفف من ومعاناة النازحين وهي بحسب النجار دمج النازحين في الاقتصاد المحلي، أما من خلال دعم المشاريع الصغيرة أو تسهيل منح تراخيص لأعمال أنشطة بسيطة والتي يدخل فيها وكالة تنمية المشاريع الصغيرة والأصغر وأيضا المشاريع التي تدعم من منظمات إقليمية ودولية بهدف دعم المشاريع الصغيرة للنازحين وتكون موجهة لفئة معينة وهي فئة النازحين.
ويتابع"نحتاج اليوم إلى إطلاق برنامج تمويل متناهي الصغر مخصص لدعم المشاريع الصغيرة جدًا لفئة النازحين، وذلك من خلال شراكات فاعلة مع الجهات المعنية مثل الصندوق الاجتماعي للتنمية، البنوك الإسلامية، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وكذلك مع المنظمات الإقليمية مثل الجمعية الكويتية للإغاثة، والهلال الأحمر الإماراتي، والبرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، لضمان استدامتها".
وفي ظل هذه التحديات الكبيرة، يبقى النازحون في أمسّ الحاجة إلى تدخلات إنسانية حقيقية تضمن لهم الأمان وسبل العيش والخدمات الأساسية، وتعيد إليهم جزءًا من الحياة التي فقدوها جراء الحرب.
فمعاناة النزوح في اليمن ليست مجرد أرقام، بل قصص بشر يبحثون عن فرصة للنجاة وحق في حياة كريمة.