ألقت الولايات المتحدة بثقلها في الأزمة السودانية بعد طلب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، لكن جهود مستشار ترمب، مسعد بولس، لاقت "انتقادات حادة" من رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان، الذي يحظى بدعم مصر باعتباره رأس المؤسسة الشرعية في السودان، وهو ما أثار التساؤل حول رؤية مصر التي تقع بين علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن ودعمها المستمر للجيش السوداني باعتباره إحدى مؤسسات الدولة.
وبعد أيام من غياب تعليق رسمي مصري في شأن تطورات التحرك الأمريكي في الملف السوداني، أكد وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي الخميس ترحيب القاهرة بانخراط الرئيس الأمريكي بصورة مباشرة في جهود حل الأزمة، بعد لقائه الأمير محمد بن سلمان، معرباً عن أمله أن يسهم هذا الانتظام في وضع حد لـ"الكارثة" في السودان، مشيراً إلى أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كان قد طلب من ترمب ذلك خلال لقائهما في شرم الشيخ منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وأضاف عبدالعاطي، خلال مؤتمر صحافي، أنه يأمل في أن يؤدي الانخراط الأمريكي إلى توفير البيئة المناسبة لتنفيذ إعلان المجموعة الرباعية الصادر في الـ12 من سبتمبر/ أيلول الماضي، للتحرك في اتجاه الهدنة الإنسانية، ووقف إطلاق النار، وبدء العملية السياسية الشاملة التي لا تقصي أحداً، مشيراً إلى ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية و"في القلب منها الجيش".
وألقى اجتماع الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس ترمب حجراً ثقيلاً في مياه جهود الحل الراكدة وسط حرب مستمرة منذ أبريل/ نيسان 2023، أدت إلى أزمة إنسانية توصف بالأسوأ في العالم، حيث أعلن الرئيس الأمريكي في الـ19 من نوفمبر أنه سيعمل على إنهاء الحرب في السودان بعدما طلب منه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التدخل لحل الصراع، فيما رحب طرفا الصراع في السودان بالجهود السعودية والأمريكية لتحقيق السلام.
وترجم حديث بايدن بإطلاق كبير مستشاري ترمب للشؤون العربية والأمريكية مسعد بولس جهوداً مع الأطراف المعنية لوقف إطلاق النار في السودان، وزار الإمارات وأعلن من هناك عن رفض كل من الجيش و"الدعم السريع" خطة أمريكية للحل.
ولم يكشف بولس عن تفاصيل الخطة الأمريكية، وما إذا كانت تتطابق مع البيان المشترك الذي أصدرته دول الرباعية في سبتمبر/ أيلول، الذي نص على خمسة مبادئ، هي تأكيد سيادة السودان، ووحدة وسلامة أراضيه، وعدم وجود حل عسكري للنزاع، وضرورة تسهيل وصول المساعدات الإنسانية لجميع أنحاء السودان، والدعوة إلى هدنة إنسانية 3 أشهر "مبدئياً" لتمكين وصول المساعدات بما يؤدي إلى وقف إطلاق النار، ثم إطلاق عملية انتقالية لمدة 9 أشهر تنتهي بتشكيل حكومة مستقلة بقيادة مدنية، فضلاً عن وقف الدعم العسكري الخارجي.
لكن الحكومة السودانية، التي لم تُبدِ اعتراضاً على البيان الصادر قبل أكثر من شهرين، هاجمت بضراوة ورقة قدمها مسعد بولس باعتبارها ممثلة للرباعية الدولية، حيث وصفها رئيس المجلس السيادي بـ"أسوأ ورقة" باعتبارها "تلغي وجود القوات المسلحة، وتطالب بحل جميع الأجهزة الأمنية، وتبقي الميليشيات المتمردة في مناطقها".
وأضاف البرهان في خطاب أمام قيادات الجيش أن "مبعوث الرئيس الأمريكي يتحدث وكأنه يريد أن يفرض علينا بعض الفروض"، معرباً عن خشيته بأن يكون بولس "عقبة في سبيل السلام".
4 مسارات متكاملة
يعتبر نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الإفريقية السفير صلاح حليمة التحرك الأمريكي الأخير يأتي في إطار عمل اللجنة الرباعية ضمن مسار سياسي متفق عليه بين أطراف الرباعية مع وجود تنسيق وتشاور مستمر، وبحضور مصري فاعل.
يقول حليمة لـ"اندبندنت عربية"، إن الرؤية المصرية التي طرحت في مؤتمر القاهرة في يوليو/ تموز 2024 تتناول أربعة مسارات متكاملة هي المسار الأمني والعسكري، والمسار السياسي، والمسار الإنساني، إضافة إلى مسار رابع يتعلق بإعادة الإعمار، ومن المفترض أن يبدأ بمرحلة تعاف مبكر، مشيراً إلى أن تصريحات المبعوث الأمريكي مسعد بولس تؤكد أهمية المسار السياسي والحوار السوداني الشامل، وهي الرؤية نفسها التي تطرحها القاهرة.
وأضاف حليمة أن الرؤية المصرية تتقاطع مع ما يطرحه البرهان في شأن تحرك المبادرة الرباعية في هذه المسارات، بخاصة المسار الأمني المرتبط بإحياء مفاوضات منبر جدة، باعتبارها مفاوضات غير مباشرة بين القوات المسلحة و"الدعم السريع"، وتهدف إلى دمج قوات الدعم السريع وإخراجها من المنشآت الوطنية، وهو ما يعني انسحابها من جميع المناطق التي تسيطر عليها تمهيداً لدمجها وفق ما كان مطروحاً، لافتاً إلى أن الدعم السريع أصبح مداناً دولياً بارتكاب جرائم ترقى لجرائم ضد الإنسانية، ما يجعل من غير المقبول مساواته بالمؤسسة العسكرية السودانية، ما أوجد حالاً من عدم الارتياح تجاه أي مقاربة قد تبدو وكأنها تتعامل مع الطرفين على قدم المساواة.
وأشار نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الإفريقية إلى أن الدعم السريع لم يحترم أي هدنة سابقة، وأن منح هدنة بهذه الصورة يمنحه فرصة لإعادة تنظيم صفوفه، واستعادة ما فقده من مواقع، وللاستفادة من الدعم الذي يتلقاه من أطراف متعددة.
وفي ما يتعلق بلغة الخطاب الموجهة من مجلس السيادة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب أوضح حليمة أن البرهان نشر مقالاً استخدم فيه لغة دبلوماسية هادئة تتحدث عن المصالح المشتركة والاستعداد لصنع السلام.
وبعد يومين من مهاجمته مبعوث ترمب نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية مقال رأي للفريق أول عبدالفتاح البرهان دعا فيه إلى تفكيك قوات الدعم السريع لتحقيق السلام، مرحباً بتصريحات الرئيس الأمريكي في شأن بذل جهود لحل الأزمة السودانية، وحذر من أخطار الدعم السريع على المصالح الأمريكية وعرض شراكة الخرطوم وواشنطن بعد الحرب.
هل يمكن المساواة بين الجيش والدعم السريع؟
كذلك، أكدت مساعدة وزير الخارجية المصري السابق للشؤون الإفريقية السفيرة منى عمر أن التحرك الأمريكي الأخير تجاه الأزمة السودانية "لم يكن خطوة مفاجئة"، موضحة أن القاهرة ودولاً أخرى طالبت منذ فترة بضرورة وجود تدخل دولي جاد لإنهاء الصراع المستمر منذ أكثر من عامين.
وشددت السفيرة منى عمر على أن الموقف المصري ثابت وواضح، وهو دعم الشرعية السودانية ممثلة في الدولة والجيش الوطني، مؤكدة أنه "من الصعب المساواة بين قوات نظامية ومؤسسات دولة من جهة، وبين منشقين مسلحين ارتكبوا انتهاكات واسعة".
وانتقدت عمر الرؤية الأمريكية التي تطالب ببقاء القوات في مواقعها الحالية، موضحة أن هذا الطرح يمنح قوات "الدعم السريع" قوة ونفوذاً في المناطق التي سيطرت عليها في الفاشر بدارفور وغرب كردفان، ويعد "تكريساً لفرض الأمر الواقع".
وأضافت عمر لـ"اندبندنت عربية" أن غالبية الشعب السوداني، "إن لم يكن الشعب بأكمله"، يقف ضد "الدعم السريع" بسبب الفظائع والانتهاكات التي ارتكبتها، بخاصة في دارفور، واصفة ما جرى هناك بأنه "غير مسبوق عالمياً".
كانت المفوضة الأوروبية للمساعدات الإنسانية وإدارة الأزمات حاجة لحبيب قد وصفت ما قامت به قوات الدعم السريع في الفاشر بأنه "مذبحة وليست حرباً"، وذلك خلال مؤتمر صحافي في القاهرة الخميس الماضي. واتهمت الحكومة السودانية "الدعم السريع" بقتل أكثر من ألفي شخص خلال الاستيلاء على مدينة الفاشر الشهر الماضي، إضافة إلى انتهاكات أخرى من بينها الخطف والتعذيب.
ولفتت السفيرة منى عمر إلى أن وثيقة المجموعة الرباعية الصادرة في سبتمبر الماضي طالبت صراحة بوقف الدعم الدولي لـ"الدعم السريع"، لكنها لم تتضمن بعض النقاط التي ذكرها رئيس مجلس السيادة في خطابه الأخير.
هل تكثف مصر تحركاتها؟
حول دور مصر في توصيل وجهة نظر الحكومة السودانية لواشنطن ترى السفيرة منى عمر أن مصر مطالبة بتكثيف تحركاتها السياسية والفكرية في الولايات المتحدة، موضحة أن فهم بعض الشركاء الغربيين لطبيعة الأزمات في إفريقيا والعالم العربي "قاصر وبعيد من الواقع"، مؤكدة أن التحرك المصري يجب أن يجري عبر مراكز الأبحاث الأمريكية، والكونغرس، والإدارة الأمريكية لشرح جذور الأزمة السودانية وأبعادها الحقيقية، بهدف الوصول إلى حل نهائي يوقف الحرب ويعيد بناء الدولة، بدلاً من حلول موقتة تعيد إنتاج الصراع.
بدوره قال مساعد وزير الخارجية المصري السابق لشؤون السودان حسام عيسى إن الوعود التي صدرت عن ترمب في أعقاب زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن كانت متوقعة، نظراً إلى أهمية العلاقات بين واشنطن والرياض. موضحاً أن الأمير محمد بن سلمان قدم لترمب شرحاً وافياً لطبيعة الصراع في السودان، بخاصة أن الرئيس الأمريكي "لم يكن ملماً بكامل تفاصيل المشهد".
وأضاف عيسى لـ"اندبندنت عربية" أن ترمب تعهد التحرك، إلا أن تنفيذ الوعود لا يزال محل انتظار، مؤكداً أن الموقف ما زال غير محسوم، وأن هناك حديثاً عن تركيز الجهود في الفترة المقبلة، لكن اتجاه هذا التركيز لم يعلن بعد، وموضحاً أن أحد أبرز الإشكاليات يتمثل في أن "(الدعم السريع) لم تلتزم" بأي اتفاقات سابقة على رغم توقيعها عليها، بينما فقد الطرف الآخر الثقة فيها، وهو ما يمثل معضلة لا يقبلها الرأي العام السوداني ولا المجتمع الدولي.
وأشار السفير عيسى إلى وجود حال من عدم الحماسة لوقف إطلاق النار في الوقت الراهن، خصوصاً بعد تصريحات عضو مجلس السيادة ياسر عطا التي تحدث فيها عن استمرار الحرب لتحرير كامل الأراضي السودانية.
وحول الدور المصري أكد عيسى أنه بات واضحاً أن الإدارة الأمريكية أصبحت أكثر إدراكاً لتعقيدات الوضع السوداني بعد لقاء ترمب والأمير محمد بن سلمان، حيث اعترف الرئيس الأميركي بوجود كارثة إنسانية تستوجب التحرك.
ورأى أن توضيح الموقف للجانب الأمريكي أصبح أسهل بعد هذا اللقاء، وإن كانت القاهرة لا تزال مطالبة باستمرار التواصل الدبلوماسي لضمان نقل واقع الأزمة على حقيقته.
وبخصوص لغة الخطاب السودانية التصعيدية تجاه واشنطن، أوضح السفير عيسى أن تقديم الموقف بصورة موضوعية يظل واجباً، لكن في النهاية "لكل طرف حرية التعبير عن رؤيته بالطريقة التي يراها مناسبة"، مشيراً إلى أن التعامل مع شخصية مثل ترمب يحتاج إلى وضوح مع قدر من الحذر، لكن القرار يعود إلى الطرف السوداني نفسه.
(اندبندنت عربية)