منذ ربع قرن كان التحول الرقمي واحداً من المشاريع المستقبلية الموجودة ضمن خطط كثير من الدول لتنفيذها في المستقبل القريب، وخلال العقد الأخير كان من الأولويات، باعتبار التطور التقني الكبير الذي شهده العالم في كل المجالات، وبالفعل كثير من الدول كانت وصلت إلى نجاحات ملموسة في هذا الشأن، لكن عام 2020 شكل لحظة مفصلية في تطور الأحداث، فمع إعلان جائحة كورونا واعتماد الحظر الإجباري في العالم كله، أصبح التحول الرقمي واقعاً لا بد من التعايش معه لا اختياراً، فحدث تسارع كبير في هذه المجال وعانت الدول التي لم تعتمده بصورة كافية من كثير من الأزمات، في ظل الواقع الذي فرض الإغلاق على كل شيء.
ووسط هذه الأزمة وحتى بعد مرورها، حدثت كثير من التغيرات في كل مناحي الحياة، ومن بينها علاقة الإنسان بالمكان وتحديداً المنزل، فمع الحظر الإجباري بقي الناس مرغمين داخل منازلهم في عزلة إجبارية لم يسلم منها الكوكب كله، وأصبحت المنازل مقار للعمل والدراسة والترفيه والعلاج والتسوق، وشكل هذا نقطة تحول كبيرة في علاقة الناس بمنازلهم، فما كان صعباً أصبح ممكناً، وما كان غير مقبول تحول إلى أمر واقع، وهنا أصبح التحول الرقمي حاجة ملحة حتى عند الفئات التي لم تكن تفضله، فالتعليم أصبح عبر المنصات والتطبيقات، والعمل أصبح من المنازل، والتسوق والمدفوعات تجري عبر التطبيقات المختلفة، والحياة بكاملها تدور من غرفة المعيشة.
وبعدما انقضت الجائحة وعادت الأمور لطبيعتها غيّر كثير من الناس، وحتى المؤسسات، عاداتهم بعد أن وجدوا أن الأمر ممكن، فبعضهم اعتمد العمل من المنزل بعد أن وجده يحقق النتائج نفسها وربما أفضل، بسبب عدم استنزاف الوقت والطاقة في التنقل، وبعضهم اعتمد التسوق الإلكتروني مع انتشار المواقع والتطبيقات، وكثر استفادوا من المحاضرات التي توافرها كثير من المنصات، وغيرها كثير من الأمور التي أصبح التحول الرقمي رابطاً مشتركاً فيها، والتي غيرت من مفهوم المكان، فبعضهم يعمل أو يدرس في المنزل ويذهب إلى الخارج للراحة والترفيه، وهو ما شكل تغيراً كبيراً في النظرة للمساحات الشخصية.
وطبقاً لتقرير صادر عن "البنك الدولي" ففي غضون فترة كورونا قفزت التنزيلات الخاصة بتطبيقات التسوق والتعليم والصحة والتمويل والتسوق بصورة كبيرة، منذ بداية الإغلاق الذي شهده العالم بسبب الجائحة، مما أدى إلى زيادة كبيرة في عدد المستخدمين الجدد في جميع أنحاء العالم، كما حدثت زيادة ضخمة وصلت إلى 60% في تنزيل التطبيقات الخاصة بعقد الاجتماعات والمؤتمرات وإدارة الملفات في غضون ثلاثة أشهر من تفشي الجائحة، باعتبار أن الجميع يعمل من المنزل، وأصبحت هناك حاجة ماسة إلى التواصل مع فريق العمل عبر هذه التطبيقات.
كما أدت الجائحة إلى تصاعد كبير في الاعتماد على المدفوعات الرقمية والتسوق عبر الإنترنت على مستوى العالم، مما أحدث تحولاً كبيراً في قطاعي التمويل والتجارة، وقد استمر هذه الوضع بعد انتهاء الإغلاق، إذ زاد الوقت المستغرق في استخدامها بنسبة 60% من مستويات ما قبل الجائحة، وذلك بنهاية عام 2022، وصار التحول الرقمي واقعاً في العالم كله، ولكن التفاوت الكبير بين كثير من الدول في أمور مثل ملكية الأجهزة الرقمية وسرعة الانترنت وإتاحته والقدرة على تحمل الكُلف عرقلت التقدم في ما يتعلق بالتحول الرقمي في بعض البلدان المنخفضة والمتوسطة في الدخل.
التحول الرقمي في عالم الصحة
من بين أكثر المجالات التي كان التحول الرقمي فيها يمثل أولوية مع انتشار الجائحة هي الصحة، فمع أهمية التباعد الاجتماعي ظهرت حاجة ماسة إلى وجود من يقوم ببعض الخدمات الطبية بصورة تقلل من التعامل المباشر، وهو ما دفع للاستعانة بالروبوتات، ولم يكن هذا هو الاستخدام الأول، فيعود تاريخ أول استعانة بالروبوتات في إجراء الجراحات لعام 1985 حينما أجرى الطبيب ياك سان كوا جراحة أعصاب دقيقة لأخذ خزعة من المخ مستعيناً بذراع روبوت، ومن وقتها شهد هذا المجال تطورات متلاحقة إلا أنه شهد طفرة خلال الأعوام الأخيرة، فبحسب "منظمة الصحة العالمية" يقدر عدد الروبوتات الجراحية الموجودة في المستشفيات عالمياً بنحو 7500.
ولم تعد الروبوتات مرتبطة بالجراحة فقط وإنما امتدت لكل قطاعات الطب، ومن أحدث المستجدات ظهور روبوت يقوم بدور طبيب الأسنان، فقد طورت مختبرات "المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا" في زيوريخ روبوتاً يقوم بدور طبيب الأسنان ويمكن أن يتفوق عليه تحت اسم (dent pot)، وقد نشر الإنجاز العلمي الجديد في مجلة ((Nature Robotics في مايو/ أيار 2025، وقد جرى إجراء تجارب على 200 حالة حقق فيها الروبوت نتائج فاقت الأداء البشري، وسيحصل على ترخيص "الاتحاد الأوروبي" عام 2026، ويبدأ انتشاره التجاري.
اشتداد جائحة كورونا كان دافعاً لمهندس مصري لتطوير روبوت يحمل اسم (Cira-03) يجري الفحوص لتقليل التعامل المباشر بين المريض وفريق الطاقم الطبي، ووفقاً لتقرير نشرته وكالة "رويترز" حينها فقد عد الروبوت الأول من نوعه في العالم بين نظائره التي جرى تطويرها لأداء الغرض نفسه في مناطق متفرقة من العالم، وكانت هذه الفترة تمثل انطلاقة للعمل على إدخال الآلات في القطاع الطبي، وبعد مرور خمسة أعوام فإن الأمر حقق تطوراً ملاحظاً في العالم كله، ومن المتوقع أن يزداد الاعتماد عليه.
ويؤكد مطور الروبوتات الحائز "جائزة جنيف الدولية للاختراعات القائمة على الذكاء الاصطناعي" المهندس محمود الكومي أن "الروبوتات كانت عند قطاع كبير من غير المتخصصين مرتبطة بالخيال العلمي والأفلام، لكن من المتوقع خلال الأعوام القليلة المقبلة أنها ستكون جهازاً موجوداً في كل المجالات والتخصصات وحتى في المنازل مثل أجهزة الكمبيوتر، وسيكون لها دور كبير فيما يتعلق بالقطاع الطبي فهو موجود وقائم حالياً، لكن سيزداد دوره مستقبلاً، ومع اشتداد أزمة كورونا والحاجة إلى عنصر غير بشري للمساعدة في تقديم الخدمات الطبية، قمت بتطوير روبوت يقوم بعمل المسحة والأشعة اللازمة دون تدخل بشري للمساعدة في وجود تباعد بين المريض والطبيب، وحقق نجاحاً كبيراً، وحاليا تطور الأمر بصورة كبيرة".
ويوضح الكومي أن "فكرة الاعتماد على الروبوتات في المجال الطبي تختلف بحسب طبيعة الدول، فهناك دول قوانينها تسمح بوجود اعتمادية على الآلة وأخرى لا تسمح، وهذا أحد العوامل التي تؤثر في تطور الاعتماد على الآلات في مجال الطب بشكل عام، فقوانين أوروبا تسمح ولكن قوانين أميركا وشرق آسيا لا تسمح، وبالطبع يؤثر هذا في درجة التحول فيما يتعلق بهذا الأمر، ولكنه قادم لا محالة".
الروبوت القائم بالمهمات الطبية يثير كثيراً من الجدل، فبعضهم يعتبر أن الطب واحدة من المهن الإنسانية التي تحتاج إلى شكل من التواصل المباشر مع إنسان لا الآلة، وأن الراحة النفسية للطبيب لها دور كبير وقد تدفع شخصاً لتفضيل طبيب دون آخر، بينما يرى بعضهم أن الجودة والدقة التي يقدمها الروبوت سيكون لها الأولوية، وبين هذا وذاك يرى بعضهم أن الدمج بين الجانب البشري الإنساني والجانب التقني هو الصيغة الأمثل في هذه الحال.
تسوق من غرفة المعيشة في منزلك
واحدة من أهم التحولات التي شهدتها الأعوام الأخيرة هي التسوق الإلكتروني، فبعدما كان التسوق لحاجات المنزل مهمة أسبوعية أو شهرية يقوم بها أحد أفراد الأسرة، أصبحت تجري في أوقات كثيرة والشخص جالس على الأريكة أمام التلفزيون من أحد تطبيقات السوبر الماركت أو التسوق، ولا يقتصر الأمر على حاجات المنزل وإنما امتد لكل شيء، الملابس وحاجات الأطفال والأدوات المدرسية، وكل ما يخطر على البال أصبح له مواقع وتطبيقات تتيح التسوق والدفع الالكتروني.
وزاد هذا الوضع بالفعل مع فترة الجائحة عام 2020 لكن بعضهم اعتمده بشكل كبير توفيراً للوقت والجهد والطاقة، بخاصة مع تعدد الخيارات المتاحة وإتاحة الدفع الإلكتروني، وطبقاً للبنك الدولي ففي عام 2021 اعتمد جميع البالغين تقريباً في البلدان الغنية استخدام المدفوعات الرقمية، مقارنة بنسبة 37% فقط في البلدان منخفضة الدخل، لكن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجلت أقل معدل لاعتماد هذه المدفوعات حيث بلغ نحو ستة في المئة من السكان.
وحققت الشركات الرقمية المحلية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل انتشاراً كبيراً خلال الفترة ما بين عامي 2020 و2022، واعتمدت على المدفوعات الرقمية لكن غالبيتها قدم تجارب محلية غير قابلة للتوسع أو النقل للأسواق الأجنبية، وفي الوقت نفسه ارتفعت الصادرات من خدمات تكنولوجيا المعلومات التي تشمل كل شيء، من تطوير البرمجيات إلى الحوسبة السحابية ومعالجة البيانات إلى سبعة أضعاف منذ عام 2005.
ومن منظور استشاري تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي محمد الحارثي فإنه "خلال الربع قرن الأخير حدثت طفرة كبرى في التحول الرقمي، وخلال الأعوام الـ 10 الأخيرة كانت هناك مشاريع يجري تطويرها، لكن التطور المتسارع بدأ منذ نحو خمسة أعوام مع جائحة كورونا التي جعلت الأمر إجبارياً وليس اختياراً عند الأفراد قبل الدول، فخلال هذه الفترة أصبحت كل المؤسسات على المستوى العالمي تعتمد على المدفوعات والأنظمة الإلكترونية، والعمل على أن يكون هناك إتاحة لكل الفئات، وأصبحت للمدفوعات الإلكترونية والتسوق عبر المواقع والتطبيقات سوق كبيرة جداً بعد فترة كورونا، وبعد انتهاء الجائحة وعودة الحياة لطبيعتها اعتمده الناس كأسلوب حياة ووجدوه أسهل وأكثر توفيراً للوقت والجهد، بخاصة مع تنوع الاختيارات".
ويضيف الحارثي أن "هذا الوضع أتاح ظهور كثير من المشاريع التي تعتمد تطبيقات تقدم خدمات للجمهور، حتى إن هناك كثيراً منها أصبحت متشابهة، لكن من سيصمد هو الأكثر قدرة على فهم حاجات مجتمعه المحيط والتطور بشكل سريع، وأية شركة أو مؤسسة لن تعتمد التحول الرقمي لن تصمد، فنحن حالياً من المفترض أننا تجاوزنا مرحلة التحول الرقمي ودخلنا إلى مرحلة كيفية استخدامه واستغلاله لتقديم خدمات وتحقيق مكاسب"، موضحاً أنه "في وقت سابق كان الدفع الإلكتروني مقتصراً على الفئات التي تتعامل مع البنوك ولديها حسابات بنكية أو بطاقات، ولكن ظهور المحافظ الإلكترونية المختلفة وتطبيقات الدفع أتاحا لقطاعات عريضة من أن تدخل في منظومة الدفع الرقمي، فحتى المتاجر الصغيرة التي ليس لديها ماكينة للدفع بالفيزا أصبحت تتيح إرسال النقود عبر هذه الوسائل الحديثة، وبالقطع شكل هذا تطوراً كبيراً في اعتماد المدفوعات الإلكترونية في كثير من الدول، وانتشرت البطاقات الإلكترونية بشكل كبير، حتى إنه أصبح هناك بطاقات يصدرها الأهل للأطفال للحصول على مصروفهم بشكل يتيح لهم تنظيم مدفوعاتهم وإدارة مواردهم المالية، وهو اتجاه آخذ في الانتشار".
التعليم الرقمي للكبار والصغار
قدرت الأمم المتحدة عدد الأطفال الذين تأثروا بإغلاق المدارس خلال جائحة كورونا بنحو 1.5 مليار طفل، تمكن قطاع منهم من الاستمرار في تلقي التعليم خلال فترة الاغلاق بالوسائل التكنولوجية المختلفة، وبعضهم انقطع عن التعليم حينها بسبب التفاوت الكبير في توطين استخدام التكنولوجيا بين القارات.
وطبقاً لتقرير صادر عن "منظمة الأمم المتحدة للطفولة" (يونيسف) ففي أغسطس/ آب 2020 أدى وباء "كوفيد" وإغلاق المدارس إلى حرمان ما لا يقل عن ثلث التلاميذ في أنحاء العالم، أو ما يعادل 463 مليون طفل من التعليم لعدم القدرة على القيام بذلك افتراضياً، وقد أوضحت الأمم المتحدة أن التعليم الرقمي يرتكز على ركائز ثلاث، وهي المحتوى الذي يجب أن يكون متاحاً وعالي الجودة من خلال منصات التعلم الرقمي، والقدرة وتعني استخدام التكنولوجيا لضمان الاستفادة من المحتوى، وأخيراً الاتصال الذي يضمن استفادة المؤسسات والأفراد من المحتوى بوجود خدمة إنترنت متاحة.
وأفادت المنظمة أن التعليم الرقمي يتيح الوصول لكثير من الفئات التي قد تكون مهمشة في بعض المجتمعات مثل اللاجئين وذوي الإعاقة والفتيات وسكان المجتمعات النائية، كما أنه يقوم بدور في سد الفجوات التعليمية.
ووفق رؤية أستاذ علم النفس التربوي تامر شوقي فإن "التعليم الإلكتروني يتيح عرض مواد تدعم المحتوى مثل المواد الفيلمية وغيرها أو إطلاع الطلاب على مواد معينة تساعد في إثراء التجربة التعليمية، وكل شيء حالياً أصبح يمكن تعلمه إلكترونياً، ومثل هذا نقلة كبيرة في مجال التعليم لكل الأعمار ومن المتوقع حدوث طفرة أكبر مع انتشار الذكاء الاصطناعي في الفترة القادمة".
ويضيف شوقي أنه "لا يخلو التعليم عن بعد من العيوب وعلى رأسها أنه إذا كان الاعتماد عليه بشكل كامل فيؤدي هذا لخلق حال من العزلة والانطوائية، ويؤدي لضعف قدرات التواصل الاجتماعي الحقيقي مع الناس، ولذلك لا ينصح به في المراحل التأسيسية للأطفال إلا في حالات الضرورة القصوى فهم يحتاجون إلى التواصل والتفاعل مع المدرس والزملاء بشكل مباشر، لكنه يحقق فائدة كبيرة في المراحل الأكبر والمرحلة الجامعية وما بعدها، والأفضل هو ما يطلق عليه النظام الهجين باعتباره يجمع بين الحضور والتعلم عن بعد، وهو ما اعتمدته كثير من الجامعات لتقليل الكثافة وتحسين الجودة"، مشدداً "التعليم عبر الوسائط الإلكترونية المختلفة له مميزات منها إتاحته لكثير من الفئات التي قد لا تتمكن من الوصول لأماكن التعليم المختلفة، كما أنه يميزه توفير الوقت والجهد وكثير من المصروفات مثل الانتقالات وغيرها التي قد تمثل عبئاً على بعض الفئات".
مستقبل الوظائف في ظل الذكاء الاصطناعي
في كلمه ألقاها إيلون ماسك في "VivaTech 2024"، وهو مؤتمر تكنولوجي عن الذكاء الاصطناعي عقد في باريس قال عن مستقبل الوظائف "من المحتمل ألا يحصل أي منا على وظيفة"، ووصف ماسك المستقبل فافترض أن الوظائف ستكون اختيارية، وافترض أن البشر قد يختارون العمل فقط إذا وجدوا فيه متعة، أي يمارسونه كإحدى هواياتهم، بينما تتولى الروبوتات والذكاء الاصطناعي إنتاج كل السلع والخدمات بكفاءة.
وتعتمد رؤية ماسك المبالغ فيها لمجتمع بلا وظائف على مفهوم دخل العالمي الأساس، وهو مبلغ نقدي دوري وغير مشروط يجري دفعه لجميع المواطنين من قبل الدولة بهدف ضمان حد أدنى من العيش الكريم ومكافحة الفقر والمساواة، إلا أن ماسك يقترح نظاماً يضمن توزيع الثروة بحيث لا يوجد أي نقص في السلع أو الخدمات، لكنه لم يقدم تفاصيل محددة حول هذا النموذج الاقتصادي.
وبحسب ما أفاد تقرير صادر عن "المنتدى الاقتصادي العالمي" هذا العام بعنوان "مستقبل الوظائف" فإن العالم سيفقد 92 مليون وظيفة في قطاعات مختلفة بحلول عام 2030 بسبب الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، فيما توقع التقرير أنه في المقابل سيخلق نحو 97 مليون وظيفة جديدة، ولكن الأمر يتطلب التكيف مع المهارات الجديدة والتوجه نحو التعليم المستمر لضمان البقاء في سوق العمل المتغيرة، وأوضح التقرير أن هناك قطاعات من الوظائف سيزداد الطلب عليها مثل متخصصي البيانات الضخمة، مهندسي التكنولوجيا المالية، مطوري البرمجيات، ومتخصصي الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، إضافة إلى وجود طلب كبير على خدمات الرعاية والعاملين في مجالات الإرشاد.
وفي السياق ذاته فإن تقريراً نشر في صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أفاد بأن مختبر الموازنة بـ "جامعة ييل" الأميركية ومركز "بروكينغز إنستيتوشن" للدراسات أجريا أبحاثاً خلصت إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي، بخاصة بعد إطلاق شركة "أوبن إيه آي" أداة "شات جي بي تي" في نوفمبر 2022، ولم يحدث تغييراً كبيراً في سوق التوظيف مقارنة بتحولات تكنولوجية سابقة.
ووفق رؤية المتخصص في علوم هندسة الذكاء الاصطناعي المهندس محمود الكومي، فإنه "في ما يتعلق بالوظائف فالذكاء الاصطناعي سيتيح كثيراً من الوظائف المرتبطة به خلال الفترة المقبلة، فهو شيء أشبه ببدايات ظهور أجهزة الكمبيوتر، فظهرت مجموعات من الوظائف مرتبطة بهذا الجهاز الجديد، ووقتها وتطورت واستمرت ولكنها احتاجت من لديه القدرة على التطور والتعامل معها، وهذا ما سيحدث بالضبط، فالذكاء الاصطناعي سيدخل في القطاعات كافة بأشكال مختلفة وسيطور من بعضها، كما سيكون هناك مجالات جديدة عليها طلب كبير، فالروبوتات مثلا ستنتشر بشكل كبير خلال الأعوام المقبلة، وحالياً هناك وظائف مثل مهندسي ومطوري الروبوتات ومع الانتشار المتوقع ستنتشر وظائف أخرى، فقد لا تكون مرتبطة بالتكنولوجيا بصورة مباشرة مثل بائع الروبوتات على سبيل المثال".
وتابع، "سيكون هناك طلب كبير على مجالات جديدة مثل هندسة التلقين لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهو مجال واعد جداً، وسيكون له مستقبل كبير، وفي الوقت نفسه فإن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي للمتخصص يختلف تماماً في جودة النتائج عن غير المتخصص، فيمكن الحصول على تصميمات هندسية من الذكاء الاصطناعي، ولكن حتى تكون بجودة عالية ودقة في النتيجة المطلوبة لا بد أن يتعامل مع الذكاء الاصطناعي متخصص في الهندسة، وهكذا في كل المجالات، فالأمر وإن كان سيقلص بعض الوظائف، ولكنه في المقابل سيطور من أخرى وسيخلق فرصاً جديدة لنوعيات من الوظائف لم تكن موجودة من قبل".
الجريمة انتقلت إلى المنازل
كما لكل شيء وجهين، فإن التحول الرقمي كما وفر فرصاً وأتاح خدمات وسهّل الحياة في جوانب عدة أضافت للبشرية في كل القطاعات، فله أيضاً جانب مظلم يتمثل في وجهه القبيح الذي نقله إلى داخل منازلنا.
وخلال الربع قرن الأخير تغيرت صورة الجريمة بشكل كامل في العالم كله فلم تعد تقتصر على ساحات الشوارع أو الجرائم التقليدية، لكنها انتقلت إلى العالم الرقمي، وتسللت إلى المنازل عبر الهواتف الذكية والأجهزة المتصلة بالإنترنت بشكل دائم، فلم يعد بيت يخلو من الهواتف الذكية التي إلى جانب استخدامها في التواصل أصبحت تحمل البطاقات البنكية والصور والمراسلات الخاصة والحسابات الرسمية، أي أنها صارت تحمل كل المعلومات المتعلقة بصاحبها على كل المستويات.
وكان "مكتب التحقيقات الاتحادي في الولايات المتحدة في أوضح في تقرير صادر عنه أن الخسائر المتعلقة بالجرائم الإلكترونية بمختلف أنواعها في العالم، بلغت أكثر من 16 مليار دولار في العام الماضي، فمن وجهة مستشار الأمن السيبراني ومكافحة الجرائم الالكترونية نظر محمد محسن فـ "كل طفرة تقنية جاء معها ثغرات وفرص استغلال جديدة للمجرمين الإلكترونيين، مما جعل التكنولوجيا سلاحاً ذا حدين، وقد استغل مجرمو الإنترنت هذا التطور لإطلاق هجمات تصيد إلكتروني متطورة وبرمجيات تستهدف الهواتف مباشرة، وصولاً إلى التجسس عبر التطبيقات، فالأكثر خطورة أن الجريمة الإلكترونية لم تعد موجهة فقط للمؤسسات الكبرى، بل أصبحت تستهدف الأفراد والأطفال والمراهقين داخل منازلهم، مما حول الهواتف إلى أبواب خلفية للاختراق".
ويضيف أنه "مع صعود الـ 'دارك ويب' ظهرت ملامح أكثر تعقيداً وخطورة للجريمة الرقمية، مثل التجارة غير مشروعة التي تشمل المخدرات والأسلحة، كما انتشر الابتزاز الرقمي باستخدام أدوات التزييف العميق التي تنتج مقاطع وصوراً مفبركة لأغراض التشهير أو الاستغلال، والمنصات التي تستهدف المراهقين من خلال ألعاب إلكترونية وشبكات تواصل وهمية يجري من خلالها تجنيدهم أو ابتزازهم، فالابتزاز الجنسي الرقمي حيث يجري استغلال صور أو فيديوهات خاصة للضحايا في مقابل المال، كما ظهرت الهندسة الاجتماعية الذكية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك الضحية وصياغة رسائل خادعة مخصصة".
ومن منظور مستشار الأمن السيبراني فإن "المشكلة الجوهرية أن الجرائم الرقمية تتطور أسرع من التشريعات، فالمجرمون يبتكرون أساليب جديدة بشكل متسارع بينما تحتاج القوانين والأنظمة وقتاً طويلاً لتحديث نفسها، وهنا يظهر دور الأمن السيبراني الوطني كخط الدفاع الأول، مدعوماً برفع الوعي المجتمعي من خلال مبادرات التعليم والتثقيف الرقمي والتدريب المتخصص للقضاة، المحامين، وأجهزة إنفاذ القانون لفهم طبيعة الجريمة الإلكترونية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الدفاع عبر أنظمة رصد وتحليل متقدمة للهجمات، والتعاون الدولي لمكافحة الجرائم العابرة للحدود، بخاصة أن الفضاء السيبراني بلا حدود جغرافية".
(اندبندنت عربية)